أسامة حراكي يكتب: رسالة إلى أمي
في ليلة شديدة البرودة، وأنا في سريري متدثراً بغطائي وفوقي النافذة، يجيئني منها صوت حبات المطر وهي ترتطم بها، دعوت الله أن يجعلها سقيا رحمة ولا يجعلها سقيا بلاء، وأن يسقينا الغيث ولا يجعلنا من القانطين، إنها ليلة عيد الأم، الكل يحتفل ويقدم هديته فاسترجعت ذاكرتي وأمسكت بقلمي وتناولت ورقي وكتبت:
رسالة إلى أمي
أقف أمام صندوق محمول على الأكتاف ويُمضى به، وتمضي معه آمالي، لو أمكنني أن أبقيه لفعلت، فهو يحوي داخله إنسانة أحببتها وأحبتني، وكل ذكرياتي والباقي من سنوات عمري، فكيف سأعيش دونها.
الموكب يغادر ولا أستطيع أن ألحق به، سيعود الصندوق ولكنك أنتِ لن تعودي، أرى الموكب يبتعد ومعه قلبي الذي أسمعه يصرخ مستغيثاً يود أن يقفز ويأتي إلي أو أن أذهب أنا إليه، وبدء الموكب يغيب وغابت معه نبضات قلبي، وجفت دموع عيني، فمن اليوم سأكون وحيداً.ً
ها هي أعواماً طويلة مضت على يوم رحيلك ولا أزال أذكر ذلك اليوم، ذلك اليوم الذي رأيتهم يضعونك داخل صندوق ثم مضوا بك، وأقبل الناس يقدمون واجب العزاء لجدي، وارتسم سيما الحزن على وجوههم واكتأبوا لمصيبته، لكنهم بعد ساعات انفضوا عنه كلٌ إلى شأنه، حتى الأقارب بكوا وتباكوا وسالت ألسنتهم بعبارات الحزن وعادوا إلى مشاغلهم، وأصبحتِ مجرد ذكرى لكني لم أنسكِ يوماً، ثيابك التي كنتِ تلبسينها ومقتنياتك لم أعد أراها أو أعلم عنها شيئاً، كنت أسأل جدي عنكِ فيقول لي سافرت وعندما ترجع ستحضر لك ألعاباً كثيرة، ولقد تركت لك هدية جميلة هي أختك الصغيرة.
جدي رحمه الله لم يكن يعلم أنني أفهم أنكِ رحلتِ، كم أنا مشتاق إليكِ، كم أنا بحاجة لأن أرمي بنفسي بين أحضانك، نعم حولي بعض من حاولوا أن يعوضونني عنكِ، لكن لن يستطيع أحد أن يعوضني عنكِ.
رائحة الأمهات كرائحة وطن آمن، والبيوت بلا رائحة الأمهات باردة جداً، كمقاعد الطرقات المهجورة، ووحدهم الذين قفدوا أمهاتهم يدركون تماماً أي أمان غادرهم حين أمسوا بلا أم، فالذين فقدوا أمهاتهم اكتشفوا بألم أن للأم رائحة لا تكررها الأيام ولا تأتي بها الصدف، وأدركوا كم تصبح البقايا خلف الأم غالية.
اليوم عيدك وعيد كل الأمهات، والكل يقدم هداياه ولا أجد أجمل وأعظم من سورة”يس”أقدمها لكِ، وكم مثلي الكثير سيفعلون ذلك، إعلمي أنني لن أنسكِ يوماً وأكبر دليل عل ذلك ما أهبه لك من ثواب في كل خاتمة لكتاب الله عز وجل.
لا أعلم إن كنت أحادث وهماً جسدته في خيالي، أم هل أحادث حقيقة تراني ولا أراها وتدركني ولا أدركها، لعل الأموات ينطلقون في أنحاء الكون أكثر مما ننطلق نحن الذين أثقلتنا هياكل أجسادنا، ولعل من نطلق عليهم بالأموات يرون أجسامنا مقابر جسمانية حابسة لروحنا داخلها، فيدعون لها بانبعاث قريب إلى عالمهم عالم الأحياء في نظرهم، كان الموت في عيني شبحاً رهيباً لكنه اليوم شيء جميل، كان صحراء قاحلة لكنه اليوم بستان رائع، هذا هو حالي بعدك يا أمي، أوقن الآن أنكِ من الغدر والأنانية فررت، وما أكثرها الآن.
وفي النهاية لا أجد ما أقوله سوى رحمك الله، اقبلي رسالتي التي كتبتها بطريقتي في عالمي، واستلميها بطريقتك في عالمك، وفي يوم ما سنلتقي وأدخل إليكِ من الباب الذي سبقتيني إليه.
المزيد من الموضوعات
عمر الشريف يكتب: ليتني أعود طفلاً
أسامة حراكي يكتب: في يوم الطفولة العالمي
امسية ثقافيه وندوة ادبية بمقر حزب الوفد بطنطا…