أثار فخر الجماعات الدينية المتطرفة بكثرة أعداد المنضمين إليها من الأطباء والمهندسين سؤالًا: إذ كيف يمكن تفسير هذا “الانزلاق السهل” لشباب السبعينيات الذي شاهد أفلام سينمائية تدعو للحب والمشاعر الرقيقة، وعاش في مجتمع يحترم المرأة رغم فقره، إلى ملتحين غلاظ القلوب يعتمرون غطاء طنجرة ويدعون للويل والثبور وعظائم الأمور، منكفئين نحو عصر يعتقدون أنه عصر السلف الصالح، دون النظر إلى انتهاء سياقات أو اختلاف ظروف؟!
بالنسبة للجماعات المتطرفة، فقد كان وجود هؤلاء وسط أعضائها شبه الأميين دليلًا على قوة منطقها وصحة عقيدتها إزاء مجتمع “جاهلي” (كما قال الإخوان) أو حتى “كافر” (كما قالت عصابة التكفير والهجرة التي سماها صاحبها “جماعة المسلمين”)، وهو الأمر الذي اضطرني لبحث ظروف التعليم المصري من العهد الملكي إلى نهاية السبعينيات في أحد أبحاثي. رغم كل ما قيل عن “جودة التعليم” في العصر الملكي، وكيف أن شهادة كليات الطب المصرية كان معترفًا بها دون معادلة في أوروبا، فقد كان نسق ذلك التعليم يقوم على التلقين والبلاغة لا التحليل المنطقي أو التفكير النقدي. ومن ذلك أن د. أحمد هيكل- وزير الثقافة السابق- كان يفخر أنه درس كتب المنفلوطي في الصف الخامس الابتدائي (في الأربعينيات)، في حين أن خريجي الجامعات (في منتصف الثمانينيات) لا يكادون يفقهون له قولًا! كانت وظيفة ذلك التعليم هو تخريج كوادر من الكتبة (الذين يكتبون بخط الرقعة، وكان التلامذة يضربون حتى يجيدوه!)، سواءً أكان ذلك في “وسية” أو “عزبة” تابعة لباشا، أو- على نطاق أوسع- في مملكة يحكمها عجوز متغطرس ضيق الأفق (الملك فؤاد) أو شاب ضعيف الشخصية محدود التعليم (هو فاروق). وبعد انقلاب يوليو 1952، واستيلاء الضباط الأحرار على الحكم، تم تعيين أحد الأعضاء البارزين في جماعة الإخوان المسلمين- أيام التقارب بين التنظيم والنظام- مستشارًا ثقافيًا لمجلس قيادة الثورة عام 1953، وكان هذا الشخص هو من رسم السياسة التعليمية التي سار عليها النظام التعليمي في مصر وصولًا إلى عصرنا هذا. كان اسم هذا الشخص هو سيد قطب. وبعدها كانت الأحداث كما نعرف جميعًا: صدام بين الجماعة والسلطة بعد محاولة اغتيال عبد الناصر عام 1954، واعتقال كوادرها، وجرت مياه كثيرة تحت الجسور، بيد أن الدولة التي كانت تحارب الجماعة كانت تعتمد نظامها التعليمي: نظام سيد قطب عام 1953! ولإثبات أن الدولة لا تكره الدين، ولا تحاربه (كما حاولت الجماعة أن توحي) فقد كانت أحيانًا كثيرة متشددة أكثر من اللازم في أمور يمكن تركها تحل نفسها بنفسها. بل تركت الدولة مضامين الفكر المتطرف كما هي، لتظل أفكار كالولاء والبراء، والحاكمية، والتكفير كامنة في أسس التعليم بلا تغيير، رغم أن سياقاتها التاريخية- وحتى الاقتصادية- قد انتهت (وربما يكون لهذه المسألة مقالات أخرى للرد عليها). وبعد حرب الأيام الستة عام 1967 أصبح هناك أكثر من مليون شاب مصري على الجبهة لمدة وصلت إلى سبع سنوات. في هذه الظروف التي عرف فيها الشباب السلاح والمعارك والدم، والحر والجوع والعطش في صحراء قاسية لا ترحم، ووصل الأمر إلى إصابة كثيرين بالجنون والهلوسة وهم في انتظار معركة لا يبدو أنها ستنشب على الإطلاق، بدأت طبيعة جيل كامل تختلف، وبدأ الصوت العالي وفرض الرأي يأخذان مكان الحوار الهادئ واحترام الآخر المختلف في الرأي أو حتى المعتقد. وأضيف إلى ذلك تهريب أكثر من 1 مليون قطعة سلاح إلى الصعيد في السبعينيات. ومع خروج الإخوان من السجون عام 1974 ليجابه السادات انتشار الناصريين واليساريين في مفاصل الدولة ومؤسسات المجتمع (إذ قضى عبد الناصر على كل التيارات السياسية، فلم يعد أمام السادات إلا الإخوان ليوازن بهم خصومه)، بدأت ظاهرة نشر الفكر الأصولي المدعوم أمريكيًا والممول سعوديًا (“لمكافحة الشيوعية”)، ووجد كثير من “الدعاة” ضالتهم في خريجي “كليات القمة” في مصر: الطب والهندسة. والسبب سنعرفه حالًا. يقضي طالب الطب أو الهندسة سنوات طويلة من الدراسة المكثفة المجهدة، التي لا يتعامل فيها إلا مع الجثث والأمراض والرسوم الهندسية. ونادرًا جدًا ما يتعرض لمشكلات الحياة العامة أو يحتك بالواقع، رغم أنه يعيش فيه فيزيائيًا. وبعد تخرجه، يكون عقله صفحة بيضاء. ربما يروم الثراء السريع (على طريقة أجواء السبعينيات)، لكنه- في أغلب الأحوال- يكون طيب الطوية، حسن النية، لم “يلوثه” فكر ولا فلسفة! ولأن تعليم الأطباء والمهندسين يقوم على تلقين بحت، فمن السهل جدًا استغلال هذه المسألة في تركيبتهم: فأي كلام باسم الله سيجد صدى فوريًا، ذلك أن هؤلاء الأطباء والمهندسين- أيًا ما كانت ظروفهم أو خلفياتهم الاجتماعية- يحبون الله ورسوله، وبالتالي فهم على أتم الاستعداد لبذل التضحيات من أجل نشر الدين. وعلى العكس من ذلك، نجد أن خريجي كليات أخرى- كالآداب والحقوق والتجارة- قد انخرطوا في العالم الواقعي، وعرفوا تيارات فكرية شتى، فيصعب استقطابهم. هؤلاء نادرًا ما يجدون عملًا مربحًا (وبالتالي فإسهامهم المالي في الجماعات المتطرفة سيكون محدودًا)، وانتماؤهم وولاؤهم للجماعات المتطرفة ربما يكونان في حكم المعدوم لصعوبة إقناعهم بمبادئها. لذلك كان لا بد من التركيز على الفئات الأكثر فائدة، كالأطباء والمهندسين. لذلك نسمع دائمًا عن أطباء مصريين قاموا بأعمال إرهابية أو تطوعوا في تنظيم القاعدة أو حاربوا في أفغانستان والبلقان (وهي حروب غربية ضد روسيا)، لكننا لا نسمع الكثير عن خريجي الكليات الأخرى، رغم أن هؤلاء- في معظمهم- ليسوا ضد الدين. ومع تصاعد التطرف وسط المسلمين، تزايد التعصب وسط الأقباط، وقد كان هؤلاء وأولئك نتاج نفس مدرسة التفكير القائمة على التلقين، فسرعان ما وجد الأطباء الأقباط أنفسهم أمام من يحثهم على خدمة المسيح بالضرب في المسلمين بصور شتى. في كندا، تم تلافي هذا الوضع في التعليم الجامعي، فيفرض على كل طالب في كليات الطب والهندسة والعلوم (وغيرها) الحصول على “كورس” طويل (يمتد على مدار أكثر من فصل دراسي) في الفلسفة، ليعرف كيف يفكر، وكيف ينظر للسياقات المتحركة لا للنصوص الجامدة فحسب، ويقارن بعقله ويستخلص الحقائق بنفسه، فلا يكون كالحمار الذي يحمل أسفارًا. وإلى ذلك، فهناك تخصص ثانٍ يأخذه هؤلاء أحيانًا كثيرة إلى جانب تخصصاتهم الرئيسية، ويكون من فروع العلوم الإنسانية، فتجد طالبًا في كلية الطب يجلس في قاعة المحاضرات مع طلاب اللغة الفرنسية، أو الإدارة العامة، أو العلوم السياسية، حتى يحصل على ما يسمى credits تساعده على التخرج من كليته. لذلك لن تسمع عن طبيب كندي متواطئ في قتل المسلمين، أو مهندس كندي شارك في تفجير معبد للسيخ. وللحديث بقية..
المزيد من الموضوعات
الجولة الأولى للمشاورات السياسية بين مصر وجنوب أفريقيا بالقاهرة…
مجلس الوزراء يوافق خلال إجتماعة اليوم برئاسة الدكتور مصطفي مدبولي علي قرارات …
استقبل الرئيس السيسي اليوم وزير العلاقات الدولية والتعاون الدولي بجنوب أفريقيا “رونالد لامولا”