وسيط اليوم

جريدة الكترونية عربية

لمصر لا لعبد الناصر

لمصر لا لعبد الناصر

بقلم د محمد مطاوع

كتب الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل كتابًا بعنوان “لمصر لا لعبد الناصر” ردًا على الحملة الضارية في عهد الرئيس أنور السادات ضد الزعيم جمال عبد الناصر وكل ما يمثله.
لكن الجديد في الفترة الأخيرة هو إحياء البعض ذكرى الملك فاروق مقارنة بما جرى بعده. والغريب أن معظم من يؤيدون الملك الراحل اليوم لم يشهدوا عصره، ولا يعرفون- إلا بالسماع- كيف كان عهده!
مبدئيًا، فالعلوم السياسية ترى أن النظم الملكية أكثر استقرارًا من النظم الجمهورية. لكن ما هي النظم الملكية بالضبط؟ فبريطانيا وهولندا والنرويج من جهة، والسعودية والإمارات والأردن من جهة أخرى تصنف كنظم ملكية، لكن الفارق بين هذه المجموعة وتلك شاسع. حتى كوريا الشمالية تصنف اسميًا كنظام جمهوري، وهي نظام شبه ملكي وراثي.
والجمهوريات تشمل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة من جهة، وروسيا وبيلاروسيا وزيمبابوي من جهة أخرى، والفوارق بين هذه المجموعة وتلك أكثر من أن تعد أو تحصى!
لو قلنا إن المسألة باستقرار مستوى الحياة في النظام الملكي، فليست كل الملكيات غنية، إذ أن بعضها فيه عائلة واحدة غنية فيما يعيش باقي الشعب حياة الكفاف، كما هو الحال في نيپال. وفي مصر التي أوجعوا رؤوسنا بأن الحلاق فيها زمن الملك كان إيطاليًا و”الجارسون” (أو النادل) كان يونانيًا، كان 19 مليون مصريًا (من جملة 21 مليون نسمة) يعيشون تحت خط الفقر، بما هدد بثورة شعبية إن لم يقم انقلاب يوليو!
ولو قلنا إن المسألة باستقرار نظام الحكم، فهذه مشكلة قلما ترد في العلوم السياسية، إذ أن طول الاستقرار ركود، وشدة الثبات خلل!
ونادرًا ما استطاعت الملكيات استيعاب المتغيرات، فأصبح تغيير النظام نفسه أحيانًا كثيرة ضرورة لا غنى عنها حتى تكمل الشعوب مسيرتها.
وعلى المستوى الفردي، نجد أن التزام النظم الملكية بنظام طبقي صارم مهما تغيرت ظروف الاقتصاد في العالم من حولها يجعل انتقال الناس على السلم الاجتماعي بطيئًا معقدًا بما يهدد بقاء النظام نفسه.
وقد حدثت أخطاء، بل خطايا، في زمن عبد الناصر، لكن يظل زمنه في نفوس المصريين أفضل بما لا يقارن من عهد الملك.
فخروج عدة ملايين يوم تنحيه ويوم رحيله لم يكن مخططًا- ولا كان في إمكان أحد تخطيطه بهذه الأعداد الهائلة- كما أشاع كارهوه.
كانت الناس تحب عبد الناصر، الذي وفر لهم حياة معقولة (ولا نقول “كريمة”)، وهذا لم يتحقق إطلاقًا في عهد الذل للكثرة الكاثرة من جماهير الشعب المصري في عهد الملك الصبي the boy king كما سماه مندوب سامٍ انجليزي.
فعلًا، كانت هناك دعوات للتعليم المجاني كالتي أطلقها وزير المعارف د. طه حسين في العهد الملكي، لكن من كان يتعلم ولم تكن هناك مدارس بالكثرة التي شهدناها في عهد عبد الناصر؟ وهل كان معظم الناس يقدرون على مصاريف المدرسة لأبنائهم في العهد الملكي؟
وفعلًا، كانت هناك مستشفيات نظيفة ومجهزة وطاقم من الممرضات المحترمات في عهد “ولي النعم”، لكن من كان يجرؤ على دخولها؟ هل كان الفلاح المصري يستطيع العلاج هناك مثل عائلات الأجانب والباشوات والبكوات؟
وفعلًا، كانت هناك شوارع نظيفة و”وسط بلد” راقٍ في قلب القاهرة، لكن ماذا عن الجموع التي كانت تولد وتعيش وتموت في الطين على بعد نصف ساعة فقط من وسط مدينة القاهرة، والتي يبدو أنها كانت تنتمي إلى عالم آخر؟
وإذا كانت مصر قد أقرضت بريطانيا مبلغ 3 مليارات جنيه إسترليني، ففي أي ظروف تم هذا القرض؟ هل كان ذلك القرض عنوة وتجبرًا من جانب بريطانيا أم عن رضا وسماحة من طرف مصر؟ ولو أن الملك قد أغلق منجم السكري لمصلحة الأجيال القادمة كما يقول “كذابو الزفة” هذه الأيام، فلماذا لا يوردون تكملة الخبر، وهو أن جريدة “أخبار اليوم” قد أوردت في 23 فبراير 1947 أن طن التراب لم يكن يعطي أكثر من 4 جرامات من الذهب، وبالتالي توجب إقفال ذلك المنجم؟!
ولا يشرح لنا أنصار الملكية نوع “التقدم الاقتصادي” الذي عاشته مصر في عهد “مولانا”: فهل كان النظام الاقتصادي في عهده رأسماليًا يبشر بحصول الشعب على ثمار التقدم الاقتصادي أم كان إقطاعيًا وبيلًا وبيئًا لا يعطي إلا قلة نادرة جدًا ثمار كدح أغلبية كاسحة معدمة تمامًا؟ ولو كان الشعب المصري يعيش مرفهًا في عهد المليك المفدى، فلماذا كان أول مشروع اكتتب له الضباط الأحرار هو “مشروع مقاومة الحفاء”؟ أليس من الغريب قليلًا أن الشعب المرفه كان حافيًا؟!
يقول أنصار الملكية إن هذه المشكلة كانت “تؤرق” ولي النعم، وأنه وأفراد العائلة الملكية الكريمة قد تبرعوا لحلها، لكن لا يبدو من سيرة جلالته أن تبرعاته كانت ضخمة أو أن هذه المشكلة كانت تؤرقه على الإطلاق، ودليلنا هو ما كتبته مجلة “تايم” عنه في عددها الصادر بتاريخ 10 سبتمبر 1951، فقد ذكرت المجلة الأمريكية أن الملك كان ينفق يوميًا 2,000 جنيه إسترليني على بند واحد في رحلته للريڤيرا- هو إيجار الغرف- في شهر العسل مع عروسه الجديدة ناريمان (وهو شهر العسل الذي امتد ليشمل ستة أشهر كاملة) في الوقت الذي كان فيه أجر الفلاح المصري يوميًا أقل من 10 سنتات! ولمن لا يعلم، فقد كان الفلاح المصري يمثل معظم الشعب المصري في تلك الفترة، ونظرة عجلى على وضعه في تلك الفترة تكشف عن ظروف لا تختلف كثيرًا عن أقنان الأرض في روسيا القيصرية!
وللحديث بقية..

Follow by Email
Instagram
Telegram
WhatsApp