أثناء مشاهدتي لاجتماع ترأسه عبد الناصر في سنواته الأخيرة وقدم له السادات فيه، لاحظت رد فعل عبد الناصر على كلمة السادات وسط الحاضرين (وكان الاجتماع حول طاولة اجتماعات): فتحليل وجه الزعيم يشي بأنه لم يكن يعرف أفكار السادات مسبقًا، وأنه شعر بالإحراج من كثرة التكريم الذي أسبغه عليه، والعرفان لما قام به من دفاع عن سياساته، وتمثل شخصيته وفكره حتى نطق اسمه غير مرة دون لقب! وفي الواقع، فلم يحدث في مصر بعد انقلاب يوليو 1952 ما حدث من تصفيات عرفتها نظم أخرى في طول العالم العربي وعرضه، كعبد الكريم عارف وصدام حسين في العراق، والقذافي في ليبيا، وحافظ الأسد في سوريا، وهو ما يحسب لعبد الناصر ومن كانوا معه. لكن هل انقلب السادات على خط عبد الناصر بعد توليه الحكم؟ قلنا في المقال السابق إن عبد الناصر نفسه كان البادئ بخطوات عديدة في الاتجاهات التي تبناها السادات بعد ذلك، لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن السادات فعل ما فعل باستخدام نفس الكوادر التي خدمت عبد الناصر، بمعنى أنه لم يستقدم مهاجرين مصريين عادوا من الخارج، ولا استعان بفلول العهد الملكي الذين يعيشون في أوروبا، ولا استأجر خبراء أجانب ليرسموا له سياساته، بل كانت سياساته كلها بكوادر مصرية تتلمذت وحصلت على خبرتها وتحملت مسئوليات العمل العام في عهد عبد الناصر! وقد كان هناك تحول بطئ قامت به الدولة من أجل ألا تنسلخ عن الإرث الناصري، ولا تقدم على توجهات يرفض المجتمع استيعابها، مهما كانت ضرورية لإكمال المسيرة. × ففي يونيو 1974، تم إصدار القانون رقم 43 الخاص بالاستثمار العربي والأجنبي، وهو القانون الذي بدأ ما يسمى بعصر الانفتاح، لكن المتمعن في القانون المذكور يجد أنه أوجد حالة من الاقتصاد المختلط، فهو لا ينفض يد الدولة من دعم الطبقات المتوسطة والفقيرة (المأخوذ عن النظام الاشتراكي) ولا يترك الباب مفتوحًا أمام كل من هب ودب (كما هو حال النظام الرأسمالي). وبالتالي ظلت الدولة هي المرجع الأخير للاقتصاد في اليلاد، لا الشركات العابرة للقارات كما هو حال النظم الرأسمالية. (وقد جربت الدولة في عهد مبارك ترك هامش من الحرية الاقتصادية لغير الموالين للنظام، فاتضحت خطورتهم على الاقتصاد الوطني، كما هو جال شركات توظيف الأموال التي سعت إلى إرسال أموال المودعين إلى الخارج، فكان لا بد من استبعاد هؤلاء في أي عمليات اقتصادية كبيرة تتم بعد ذلك- كالخصخصة- نظرًا لأن الاقتصاد مسألة أهم من تركها لعبث البعض ومؤامراتهم.) × وفي الشأن الوطني بدأ تشكيل المنابر- التي تطورت فيما بعد إلى أحزاب سياسية- بعدما اتضح أن تجربة التنظيم السياسي الواحد لا تكفي لاستيعاب كل التيارات الفكرية في المجتمع. وكان عبد الناصر قد تحدث عام 1968 عن ضرورة الديمقراطية في كشف الأخطاء وإصلاح المسار واستيعاب الجميع. × وعلى مسار السياسة الخارجية، كان هدف عبد الناصر هو التنمية لا محاربة إسرائيل، فلما اضطرته الأخيرة للدخول في مواجهة عسكرية حتى توقف تجربته، كان مضطرًا لتحويل جزء كبير من موارد الدولة نحو المجهود الحربي، لكنه كان يعلم أن الشعب الذي تحمل الكثير يجب أن يستريح من عبء الحرب، وأن تأخذ التنمية طريقها المستحق. وهذا ما فعله السادات. فقد ظل الوضع كما هو بعد أربع سنوات من حرب أكتوبر، كأن الحرب لم تقم! وسافر السادات كثيرًا إلى الدول الخليجية طالبًا الدعم المالي إزاء أوضاع اقتصادية متدهورة وظروف إنسانية خانقة (كظروف عائلات المهجرين من مدن القنال)، علمًا بأن السبب في طفرة البترول التي شهدتها دول الخليج كان دم الجندي المصري في حرب أكتوبر، إذ لولا هذا الجندي لظل سعر برميل البترول دولارين اثنين كما كان الحال قبل حرب أكتوبر، ليصبح بعدها 40 دولارًا! وبعد وعود كثيرة، وأموال تصل- إن وصلت- بالقطارة، وجد السادات من يقول له بعد وصوله إلى مدينة جدة في السعودية إن “الملك غير موجود وولي عهده مشغول!” فعاد السادات إلى القاهرة وهو غاضب.. وبعد تفكير مستفيض، كان لا بد مما ليس منه بد، فكانت مبادرة السلام، لأن مصر لن تقضي حياتها في حرب إلى الأبد، فيما آخرون لا يدرون كيف يبعثرون أموالهم في مواخير بيروت وملاهي لندن وباريس! ووسط كثير من اللغط والأخذ والرد (كأن العرب لا يزالون في سوق عكاظ لم يبرحوه)، كان السادات في الولايات المتحدة يتوصل بعد مفاوضات ماراثونية إلى معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية، ويحصل من الرئيس الأمريكي چيمي كارتر على وعد بأن تحصل مصر على دعم مالي مساوٍ لما تحصل عليه إسرائيل (وهذا تعهد غير مسبوق في أمريكا)، ثم إذا به يرى نتيجة اجتماع الحكام العرب الذين أصدروا بيانًا يطلب من مصر التوقف عن عملية السلام مع الحصول على ربع مليار دولار سنويًا، وهو مبلغ أقل بكثير مما وعدت به الولايات المتحدة، كما أنه كان من المشكوك فيه أن يصل أصلًا، وإذا وصل ذلك العام فقد لا يصل العام التالي، نظرًا لتقلبات أمزجة الحكام العرب، وهشاشة مواردهم! وبقصاصة ورق، استطاع السادات الحصول على أرضه، أما رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجن فقد ذهب بعد انتهاء ولايته ليعتكف في مستعمرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لإحساسه بالندم لأن السادات قد خدعه! وبدأت مصر للمرة الأولى منذ عقد كامل تشم أنفاسها بعيدًا عن ضغط الحرب وويلاتها. وربما أزعج ذلك الأمر الكثير من “المناضلين” وداعميهم في المشيخات والملكيات المحافظة! ويسأل هيكل: كيف يمكن أن يقول السادات إن 99% من أوراق الحل في يد أمريكا؟ ماذا ترك لنفسه من خيار بعد ذلك؟ عندما قال السادات إن 99% من أوراق الحل في يد أمريكا، فهو لم يكن يجاملها، بل كان يقول لها ضمنيًا: “إنك المسئولة أمامي، وإذا قلت إنك لا تستطيعين التصرف، فأنا- ببساطة- لا أصدقك! عليك أن تتصرفي مع ربيبتك إسرائيل وتعطيني أرضي!” وفي برنامج “شاهد على العصر”، ردت جيهان السادات على المذيع أحمد منصور عندما سألها الأخير عن معاهدة السلام، قائلة إنه لو لم نكن قد أخذنا الأرض حينها، لكانت في سيناء اليوم مئات المستعمرات الإسرائيلية، ولكان من المستحيل طرد اليهود منها، كما هو حال الفلسطينيين في الضفة الغربية اليوم. ….. ….. نأتي إلى موضوع غريب، يسبب حساسية لدى البعض، هو “علاقة السادات بالأقباط”. فالسادات توقع أن يرى ما رآه عبد الناصر: بطريركًا طيبًا مثل البابا كيرلس. وعمومًا، فقد تعود حكام مصر أن يروا البطاركة خانعين صامتين خاشعين. لكن الذي رآه السادات كان- لسوء حظه أو سوء حظ الطائفة القبطية- شنودة! فالأخير كان بطبيعته عنيدًا، صعبًا، متصلبًا.. يرى نفسه قائدًا فذًا، وزعيمًا ملهمًا، ومنظرًا روحيًا، وربما ما هو أكثر من ذلك! والسادات لم يكن في مزاج ولا في ظروف تسمح له بتضييع الوقت في مهاترات صبية، أو مماحكات صغار! في البداية كانت هناك أزمة كنيسة الخانكة، فقام السادات بحلها بطريقة ودية، وزار الكاتدرائية، وقال إنه إذا كان عبد الناصر كان يترك الأقباط يبنون 25 كنيسة سنويًا، فسيتركهم هو يبنون 50 مرة واحدة. وكان يتحدث فيما شنودة يقول “أنت أبونا وقائدنا وحامينا” ويكاد الكلام لا يسعفه من شدة الحب والحنان! وبعد ذلك تجددت نفس الأزمة، وكان أن دخلت الجماعات الإسلامية- التي نشأت في تلك الفترة للتخلص من تحكم اليساريين والناصريين في الساحة العامة كالجامعات ووسائل الإعلام- على الخط، فاشتدت النذر، وتعددت مخاطر المواجهة. ويخطئ من يعتقد أن السادات كان يوجه الإسلاميين للهجوم على المسيحيين، لسبب بسيط هو أنه كان بحاجة لهؤلاء المسيحيين كورقة تدعم علاقته بالولايات المتحدة! وعندما قال إنه “رئيس مسلم لدولة مسلمة” في رده على شنودة (في خطاب الغضب الشهير)، فقد كان هو أيضًا من قال في رده على مرشد الإخوان عمر التلمساني “لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة”! فالرد كان على نفس المستوى من الكلام، وكان السادات بارعًا في التغلب على مزايدات خصومه بما هو أشد مما يمكن أن يصلوا إليه. وقد فهم مبارك في شنودة هذه النزعة للزعامة والرئاسة والأبهة، فترك له الأقباط، كأنهم مواطنون في كنيسة لا في دولة، وكأن الزعامة الروحية يمكن أن تعلمهم وتوظفهم وتضمن وجودهم في دولة مدنية! عمومًا، فقد ابتعد مبارك عن الملف الشائك، وترك الأقباط لصاحبهم، وهو ما أدى إلى مضاعفات فيما بعد.. ….. ….. وللحديث بقية..
المزيد من الموضوعات
اسعار العملات اليوم في مصر
اسعار الذهب اليوم في مصر وعالميًّا
تلقى الرئيس السيسي، اليوم، إتصالاً هاتفياً من جلالة ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة.