اعلم اخي الحبيب أن الإصلاح بين النّاس موضوع له خطره وأثره، فالقائمُ بالإصلاح بين الناس يتعرضُ كثيرًا للاتهام من الطرفين، لأنه يمثلُ الحقيقة في وضوحها، ولا يمكن أن يحيد، وقد يحدث أن كلا الطرفين أو أحدهما لا يرضى بالحقيقة، فلا بد له من الصبر الواسع على هذا الأمر العظيم، وله أجر عند ربه سبحانه وتعالى، فإن إصلاح ذات البين يُذهب وغر الصدور ويجمعُ الشملَ ويضمُّ الجماعة ويزيل الفرقة، والإصلاحُ بين الناس في دين الله مبعثُ الأمن والاستقرار، ومنبع الألفة والمحبة، ومصدر الهدوء والطمأنينة، إنه آية الاتحاد والتكاتف، ودليل الأخوة وبرهان الإيمان. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]. والصلح خيرٌ تهبُّ به على القلوب المتجافية رياحُ الأنس ونسماتُ النَّدى، صلحٌ تسكنُ به النفوسُ، ويتلاشى به النزاعُ، الصلحُ نهجٌ شرعيٌ يُصانُ به الناسُ وتُحفظُ به المجتمعات من الخصام والتفككِ. بالصلح تُستجلب المودات وتعمر البيوتات، ويبثُ الأمنُ في الجنبات، ومن ثَمَّ يتفرغُ الرجالُ للأعمالِ الصالحةِ، يتفرغون للبناءِ والإعمار بدلاً من إفناءِ الشهورِ والسنواتِ في المنازعاتِ، والكيدِ في الخصومات، وإراقة الدماءِ وتبديد الأموال، وإزعاج الأهلِ والسلطاتِ، وقد أمر الله تعالى بإصلاح ذات البين وجعله عنوانَ الإيمان، فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]. إصلاح في نطاق جماعة المؤمنين وطوائفهم: قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]. وإصلاحٌ في نطاق الأسرة وبيتِ الزوجية: قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]. وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]. وإصلاح بين الأفراد: قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224]. إصلاح يعدلُ بين اثنين، ويجمعُ بين متهاجرين، ويقرِّبُ بين مُتظالمين، يُقادان إلى صلح لا يحلُّ حرامًا، ولا يحرِّم حلالاً. إصلاحٌ بين أصحاب الحقوق في الوصايا والأوقاف: قال الله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182]. ووعد سبحانه وتعالى من أصلح بين الناس إيمانًا واحتسابًا أن يؤتيه أجرًا عظيمًا، فقال تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]. والإصلاح بين الناس وظيفة المرسلين لا يقوم بها إلا أولئك الذين أطاعوا ربهم، وشرفت نفوسهم وصفت أرواحهم يقومون به، لأنهم يحبون الخير والهدوء ويكرهون الشر حتى عند غيرهم من الناس، ويمقتون الخلاف حتى عند غيرهم، ويجدون في إحباط كيد الخائنين. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بنفسه بين المتخاصمين، عن سهل بن سعد –رضي الله عنه- أن أهل قباءٍ اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم» (البخاري: 2693). وعن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: سمعت عائشة تقول: “سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب، عالية أصوتهما، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء، وهو يقول: والله لا أفعل، فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أين المتألي على الله، لا يفعل المعروف؟» فقال: أنا يا رسول الله، فله أيّ ذلك أحب” (متفق عليه). معنى المتألي: الحالف. معنى يستوضعه: يسأله أن يضع عنه بعض دَيْنه. ويسترفقه: يسأله الرفق. فعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستنكر عمله، عدل عن رأيه، واستجاب لفعل الخير، وقد قامت في نفسه داوفعه إرضاءً لله ولرسوله. والشاهد: من ذلك خروجه صلى الله عليه وسلم للإصلاح بينهما، وكان صلى الله عليه وسلم يرغّب في إصلاح ذات البين ويحث عليه: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته، فيحمل عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة» (متفق عليه). وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصدقات الإصلاح بين الناس: عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة» (صحيح الترغيب: 2814). فبين صلى الله عليه وسلم أن درجة المصلح بين الناس أفضلُ من درجة الصائمين والمصلين والمتصدقين. وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين» (صحيح الترغيب: 2817). وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب: «ألا أدلك على تجارة؟» قال: بلى. قال: «صِلْ بين الناس إذا تفاسدوا، وقرب بينهم إذا تباعدوا» (صحيح الترغيب: 2818). عن أبي أيوب -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا أيوب: ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله؟ تصلح بين الناس إذا تباغضوا وتفاسدوا» (صحيح الترغيب: 2820). عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما عُمِلَ شيءٌ أفضل من الصلاة، وصلاح ذات البين، وخُلُق جائز بين المسلمين» (صحيح الترغيب: 2816). والإمام الأوزاعي -رحمه الله- يقول: “ما خطوةٌ أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين”. ولقد بلغت العناية بالصلح بين المسلمين إلى أنه رُخِّص فيه بالكذب مع قباحته وشناعته وشدة تحريمه. عن أُم كلثوم -رضي الله عنها- أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا» (متفق عليه). -فينمي خيرًا: أي يبلغ خيرًا- وفي رواية عنها -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يكذب من نمى بين اثنين ليصلح». بل ذهب التشريعُ إلى إباحة المسألة لمن تحمل غرامة، تقديرًا لعظم الفعل، واعترافًا بأهمية الدور. عن قبيصة بن المخارق -رضي الله عنه- قال: “تحملت حمالةً -يعني: غرامة- فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها». ثم قال: «يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجة من قومه: لقد أصاب فلانًا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش ثم يمسك، فما سواهن من المسألة فسحت يأكلها صاحبها سحتًا» (مختصر مسلم: 568). فالدِّينُ الإسلامي الحنيف أوجب على العقلاء من الناس أن يتوسطوا بين المختاصمين، ويقوموا بإصلاح ذات بينهم، ويلزموا المعتدي أن يقف عند حده، درءًا للمفاسد المترتبة على الخلاف والنزاع، ومنعًا للفوضى والخصام، وأقوم الوسائل التي تصفو بها القلوب من أحقادها. وللإصلاح فقهٌ ومسالكُ دلت عليها نصوص الشرع، وسار عليها المصلحون المخلصون. إن من فقه الإصلاح: صلاح النية، وابتغاء مرضاة الله، وتجنب الأهواء الشخصية والمنافع الدنيوية، إذا تحقق الإخلاصُ حلَّ التوفيقُ، وجرى التوافق، وأُنزل الثباتُ في الأمر والعزيمةُ على الرشد، أما من قصد بإصلاحه الترؤس والرياءَ وارتفاعَ الذِّكرِ والاستعلاءَ فبعيدٌ أن ينال ثوابَ الآخرة، وحريٌّ ألا يحالف التوفيق مسعاه، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]. ومن فقه الإصلاح: سلوكُ مسلك السرِّ والنجوى، فلئن كان كثيرٌ من النجوى مذمومًا، فإن ما كان من صدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاح بين الناس فهو محمودٌ مستثنى، قال الله تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]. فلعلَّ فشلَ كثيرٍ من مساعي الصلح ولجانه: فشوُّ الأحاديث، وتسرب الأخبار، وعلى المصلح أن يخبر بما علمه من الخير، ويسكت عما علمه من الشرِّ. وليعلم المصلح أن الشر لا يطفأ بالشر، كما أن النار لا تطفأ بالنار، ولكنه بالخير يُطفأ، فلا تسكن الإساءة إلا بالإحسان، ولهذا فقد يحتاجُ المتنازعان إلى أن يتنازلا عن بعض الحقِّ فيما بينهما، وعلى المصلح أن يعلم أن النفوسَ مجبولةٌ على الشحِّ وصعوبةِ الشكائم، مما يستدعي بذلاً في طولِ صبرٍ وأناةٍ، امتثالاً لأمر الله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128]. ولكن في مقابل هذه النفوس الشحيحة يترقى أصحابُ المروءات من المصلحين الأخيار ليبذلوا ويغرموا، نعم يبذلون الوقت والجهد، ويصرفون المال والجاه، ولقد قدَّر الإسلام مروءتهم، وحفظ لهم معروفهم، فجعل في حساب الزكاة ما يحملُ عنهم غرامتهم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة: 60]. والغارمون قسمان: أحدهما: الغارمون لإصلاح ذات البين. والثاني: من غرم لنفسه ثم أعسر، فإنه يُعطى ما يُوفِّى به دينه. وعلى المصلح أن يذكِّر بما جاء في كتاب الله تعالى، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من الترغيب في العفو والترهيب في القطيعة. وأخيرًا فليكن شعار المصلح قول نبي الله شعيب عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. وأن يجعل كل امرئ نفسه ميزانًا بينه وبين إخوانه المسلمين، فما يحبه لنفسه يحبه لهم، وما يكرهه لنفسه يكرهه لهم، وحسب العبد ما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه “. وبذلك تستقيم الأمور بإذن الله، وهذا الأمر يحتاج إلى صبر جميل، وإذا أُهمل هذا الأمر الصلح بين الناس عمَّ الشر القريب والبعيد، وأهلك النفوس والأموال، وقضى على الأواصر، وقطع ما أمر الله به أن يوصل من وشائج الرحم والقرابة، وذهب بريح الجماعة، قال الله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} فالحب والألفة والصلح يجمع المجتمعات على الخير ويقويها ويساعدها على التنمية والتطور والنزاع يهدم المجتمعات ويضعفها ودائماً نلتقي على الخير
المزيد من الموضوعات
وزير الأوقاف يفتتح المسابقة العالمية للقرآن الكريم الحادية والثلاثين بمسجد مصر الكبير…
الأوقاف تفتتح 13 مسجدًا الجمعة القادمة في إطار خطتها لإعمار بيوت الله عز وجل…
وزير الأوقاف يستقبل محافظ الوادي الجديد ويبحثان التعاون المشترك في الدعوة وعمارة المساجد بالمحافظة…