وسيط اليوم

جريدة الكترونية عربية

بقلم اللواء/ سيد نوار النبوى المهندس .. صنايعى صحة مصر عمر طاهر

النبوى المهندس .. صنايعى صحة مصر
عمر طاهر

قلم اللواء /سيدنوار

(1) قبل نهاية الخمسينيات أعلن الأطباء المصريون عدم رضاهم عن حال الطب و الخدمات الصحية، كان إضرابهم تحت قيادة نقابة الأطباء، قرر عبد الناصر أن يبدأ الحل من عند أصحاب الشأن، فاختار سكرتير النقابة النبوى المهندس وزيرا للصحة.
أغلب الظن أنه اختار المهندس لسببين، الأول أن المهندس كان يتبنى مشروع العلاج في الريف و إنشاء وحدات صحية هناك، هذا رجل يريد ان يبدأ من الصفر بعيدا عن الأضواء و العاصمة والمؤتمرات. السبب الثانى أن المهندس كان طبيب أطفال، هو الأشهر وقتها و لا تخلو عيادته في شارع الجيش من المرضى، أهم ما يميز طبيب الأطفال انه يتعامل مع مريض غير قادرعلى التعبير عن حقيقة أوجاعه، يعالج مريضا لا يجيد شرح أسباب الشكوى، وهذا ما كان يحتاج إليه الطب في مصر. انطلق المهندس يعمل في صمت، حتى إن الصحافة أطلقت عليه لقب (أبو الهول)، وكانت الأخبار المتداولة عنه أشبه بالنوادر، فهو يصل إلى مقر الوزارة صباحا ثم يقف في فناء المبنى لمدة ربع ساعة ليتلقى بنفسه الشكاوى و طلبات العلاج من المواطنين ثم يصعد بها إلى مكتبه، محافظ بورسعيد يستنجد به بعد فشل علاج أربعة أطفال أشقاء أبناء لاعب كرة القدم الدولى محمد جودة فيسافر بنفسه و يوقع الكشف عليهم و يكتب لهم على نفقة الدولة الأدوية اللازمة لعلاجهم من ضمور الأعصاب، خبر عن أن أهم مساعدى الوزير في عمله هو ( عم عبد العظيم) تمورجى عيادته الخاصة. بالرغم من ذلك كان باديا للجميع أن المهندس لقب يليق بالوزير فقد اتضح أنه ليس مجرد طبيب و لكنه مهندس صحة.

(2)

أحضر له أحد أصدقائه كرافتة هدية من باريس، و زاره في منزله، قال له انه يراه طول الوقت مرتديا كرافتة واحدة اوشكت على أن تتحلل فوق عنقه، و أن وضعه كوزير يستحق بعض الأناقة. كانت صور المهندس في ريف مصر قد بدأت تنتشر، تعامل المهندس مع الوحدات الريفية على أنها خط الدفاع الأول في منظومة الصحة، وضع حجر الأساس للوحدات الصحية في كل ريف مصر، وافتتح بنفسه أكثر من 2500 وحدة في فترة قصيرة، وأسس نظام عمل بها مازالت أساسيته قائمة حتى اليوم، في هذا الوقت كان في مصر 16 مليون مواطن في الريف يعالجون و يصرف لهم الدواء مجانا.

اقتحم المهندس المجال من رؤية واسعة لفكرة الصحة، غير فلسفة انشاء المستشفيات، وضع شكلا جديدا وقتها مازال العمل به ساريا، المستشفيات المتخصصة، العيادات الخارجية، طعام المستشفى يتم اعداده في المستشفى، قوة المكان من قوة هيئة التمريض فيه، دعم الممرضات و الحكيمات مهنيا و ماديا، تحويل الإسعاف إلى وحدة عمل مستقلة بعيدا عن ميزانية المستشفيات فأسس بهذة الفكرة هيئة قوية بمحطات لاسلكى و أجهزة تنفس صناعى و نقل دم و تحول الإسعاف من سيارة لنقل المصابين إلى مكان للعلاج السريع، كان يؤمن بفكرة الوقاية و أسس فكرة حملات التطعيم في مصر، و أغلق الباب مبكرا أمام أوبئة و أمراض كثيرة مثل الدرن، و صارت حملات التطعيم مشروعا مستقلا. أخذ المهندس الكرافتة التي قدمها له صديقه ثم غاب عنه و رجع يحمل أكثر من عشر كرافتات جديدة ( بشوكها)، أصر على أن يقدمها هدية لصديقه قائلا: لدى العشرات في غرفة نومى، لكن لا وقت لدى للأناقة.

(3)

كان المهندس يؤمن بأن صحة الوطن قائمة على صحة المواطن، كان يريد عن طريق الطب أن يشارك في البناء، وكانت أفكاره أبعد من مسألة توفير العلاج للمرضى.

أسس المهندس مشروع تنظيم الأسرة، استطاع من خلال المشروع أن يضبط الصحة الإنجابية في مصر، محافظا على صحة المواليد و على أعدادهم، و كان المشروع فارقا لفترة طويلة حتى انهار بمرور الوقت، اعتمد على الطب في تأمين مستقبل أطفال مصر، فظل يكافح حتى دخل مصل التطعيم ضد شلل الأطفال إلى البلد و كان أول من نظم حملات استخدامه في كل الوحدات الصحية، استخدم الطب في دعم منظومة العمل و الإنتاج فأسس نظام التأمين الصحى الذى يتكفل بعلاج العاملين بمن فيهم المصابون بأمراض مزمنة بعد أن كان مصيرهم الرفت فيما مضى، و طور نظام أحكام اللياقة الصحية للعمل ( القومسيون الطبي) الذى يحدد لكل شخص العمل الذى يناسبه حسب حالته الصحية، استخدم الطب لإنقاذ كفاءات قد تضيع فرصتها في العمل بسبب خلل ما مثل أمراض السمع و الكلام، فأسس معهد السمع و الكلام و كان أن فتح الباب لحياة جديدة لأصحاب هذه الأمراض، ثم أسس معهد القلب وكان وقتها حديث الهيئات الطبية العالمية التي كانت تزور مصر متأملة الإنجاز الكبير على يد الوزير الذى تغيرت ثلاث حكومات دون أن يغادر منصبه، و فاته من كثرة انشغاله أن يذهب لتسلم جائزة الدولة التقديرية.

الوحدات الصحية الريفية، معهد القلب، مشروع التأمين الصحى، مشروع تنظيم الأسرة، حملات التطعيم ضد شلل الأطفال و غيره، هيئة الإسعاف، معهد السمع و الكلام، هل يمكنك ان تتخيل ما أسس له النبوى المهندس في هذا البلد في أقل من عشر سنوات؟

(4)

زار أحد الصحفيين المهندس في مكتبه، كان المهندس فخورا بمشروع تصنيع الدواء في مصر و الذى تأسس على يده، وبنجاحه في تصنيع مصل التيفود لأول مرة، قرر المهندس ان يعرض على ضيفه أحدث إنتاج، نوع من القطرة، عندما أخرجها المهندس تفتت العلبة في يده، رفع المهندس سماعة التليفون و طلب اجتماعا عاجلا بوكلاء الوزارة، ثم أصدر بعدها قرارا وزاريا بتأسيس هيئة ( الرقابة على صناعة الدواء في مصر).

أسس النبوى هيئة تراقب المشروع الذى أسسه، اخترع المهندس جهة تراقبه و تدقق في عمله، في الوقت الذى يفضل فيه أي مسئول أن يهرب من التدقيق و يختبىء خلف من يهللون له.

كان مؤسس معهد القلب مدخنا شرها و لم يظهر في أي صورة صحفية بدون سيجارة تستقر في فمه، لدرجة أنه عند ظهوره في برنامج تليفزيونى لعرض مشروعاته، جاء مانشيت جريدة الأخبار تغطية للبرنامج ( وزير الصحة ..يقاطع التدخين ساعة و نصف ساعة)، كان التدخين وقتها مسموحا به أثناء تصوير البرامج، لكن المهندس كان مستغرقا في الحديث عن مشروعاته و أحلامه للدرجة التي أنسته سجائره. شعر ببعض الآلام تهاجمه و هو في مكتبه، نصحه المقربون بالإنصراف، وافق على الفكرة لكنه طلب قبل الإنصراف أن يوقع على بعض قرارات العلاج على نفقة الدولة، بعدها عاد إلى منزله، ثم فارق الحياة في اليوم التالى متأثرا بأزمة قلبية. في اليوم التالى كان عبد الناصر يقف أمام الكاميرات في اجتماع رسمي، تجاهل ناصر الاجتماع، ووقف ينعى المهندس قائلا: فقدنا شخصا عزيزا لم نر منه خلال السنوات التي عمل فيها سوى الإخلاص.

(5)

كان أحد الصحفيين يناقش المهندس في مشروعاته و طموحاته، و سأله عما يحلم به، فقال المهندس: أتمنى أن لما حد يقابل حد في الشارع و يقوله إزيك يا فلان و إزاى صحتك؟ تكون الإجابة : الحمد لله .. زى البمب

Follow by Email
Instagram
Telegram
WhatsApp