وسيط اليوم

جريدة الكترونية عربية

عندما يصير الغش فضيله

(المقال الشهري)

“عندما يصير الغش فضيلة!”

(وسيط اليوم) 

بقلم: أسامة مدني 

2021/11/14

كنت وأنا طفلاً ثم شاباً بدولة أجنبية، أتلقى تعليمي الابتدائي ثم الثانوي بمدارس حكومية، ولم أتذكر يوماً أنني شعرت بضغوط تتعلق بالدراسة أو الإمتحانات. كنا نذهب إلى المدرسة صباحاً لنتلقى دروساً وواجبات، ونعود مساءً إلى منازلنا بلا أعباء أو ضغوطات. تبدأ الدراسة بالمدرسة وتنتهي فيها. ندرس بها، ونستذكر دروسنا بها: نلهو ونلعب ونغني ونعزف؛ نصيب ونخطئ ونقف ونتعثر. نتفوق فيكون التكريم والثناء، ونخطىء فيكون الدعم والبناء. هي رحلة تأسيس وتشييد يقف فيها المعلمون والآباء يداً واحدة لا تحيد. 

ثم تأتي الإمتحانات، “يوم يُكرم المرء فيها أو يُهان”، فنذهب مدججين بكتبنا وأبحاثنا، فهي بنظام “الكتاب المفتوح “Open Book Exam”. نجلس أمام نمط محير من الأسئلة، غير مباشر وغير صريح. نتصفح فصلاً هنا، وفقرةً هناك، بحثاً أعددناه وآخر قرأناه، في محاولة حثيثة، مضنية للوصول إلى الإجابة الصحيحة المُرضية. وفي مراحل متقدمة من الدراسة الثانوية والجامعية، يكون الامتحان بنظام “الذهاب به إلى المنزل”Take Home Exam”. فنصطحب الضيف الثقيل إلى منازلنا، ومنازل أصدقائنا، وإلى المكتبات العامة والخاصة، وإلى المراجع والمصادر، في محاولة، بل محاولات يملأها الشك غالباً، واليقين نادراً، للوصول إلى الإجابات الصحيحة، السليمة. فالإمتحانات هنا مراوغة، عصية، تتطلب قدراً هائلاً من البحث والتنقيب، والنجاح فيها مرهون بقدرتنا على ربط أجزاء المنهج ربطاً يقترب أحياناً من حالة الإبداع والتأليف. 

وهنا ينتفي مفهوم الغش برمته. فالدراسة استنباطية غير استقرائية، والإمتحانات تفاعلية تعددية، الهدف منها البحث عن المعرفة وليس تلقين المعلومة. فهي وسيلة وليست غاية، فتقل الضغوط والهموم وتنشط المدارك، والقدرة على الربط بلا قيود. فالنجاح هنا يكون بالإستخدام الأمثل للقدرات والأدوات، في التجريب وخلق العلاقات. 

مطلوب تدارك في البنية التعليمية بمدارسنا وجامعاتنا، في الشكل والمضمون، فى المحتوى والتقييم. لقد صار الغش عند الكثير من أبنائنا وسيلة تبررها غاية النجاح والتفوق بديلاً عن التعليم والتعلم، صار مرادفا للتعاون بين الأقران، وليس خيانة للنفس والخلان، صار يغلفه ثقافة التفاخر والتمجيد وليس الخزي والتحقير.

فالغش، الذى هو حلقة من متلازمة الكذب والسرقة وخيانة الأمانة، أصبح يسجل فيه بعض من طلابنا براءات اختراع بلا استهانة. وإذا تركنا هذه الآفة تستشري في المدارس والجامعات فسينتقل نفس هذا السلوك عند التخرج إلى أروقة العمل وفي المؤسسات. فالغش صار فضيلة عند البعض، وليس رذيلة يلفظها الكل. 

فإلى متى يظل الغش يتغلغل في نفوسنا وضمائرنا، فتتآكل قيمنا وأخلاقنا؟ 

وهل حقاً نؤمن جميعاً بأن “منْ غشنا فليس منا”؟

 

Follow by Email
Instagram
Telegram
WhatsApp