تقرير: أسامة حراكي
من يتوق إلى التلذذ بهواء الصبح النقي وعذرية الشمس ومصافحة فيروز وشرب القهوة معها في بواكير الصباح فاليزورها، فكلما زرتها أشعر وكأن روحي تحولت إلى حقيبة مفتوحة يفتشها جنود الغبار، كرجال جمارك يشتبهون في حقيبة قلب، يُهرب حباً وممنوعات أخرى ممنوعة من السفر إلى حب جديد.
هل اشتاق كلاً من “صخرة الروشة ومغارة جعيتا وتلفريك جونيه وتلة حريصا وقلعة جبيل وسوقها إلينا؟ هل شعروا جبال الشوف ومغارة عين وزين وقصر موسى وبيت الدين وسوق جبيل وقلعة صيدا وسوق الصابون بفقدنا؟ ألازال خبز الصاج واللحم بالعجين والمناقيش عند بربر بشارع الحمرا، ومطعم منير برمانا في انتظار أن يسعدونا، هل مقهى “ة” تاء مربوطة بشارع الحمرا وقهوة كعكايا بشارع المقدسي ينتظروننا؟”…..
للبنان حنين دائم ولهفة من نور لا تنطفىء، ذكريات بلون البحر والحب، وأغنيات بعبق الجبال المحيطة به، وحكايات طويلة مكتوبة بحبر الأيام، تنضج بالحزن والفرح معاً، فعلى من يمكننا أن نتلو هذه المزامير التي تلخص سيرة الدهشة في سفن الفينيقيين وسيف هانيبعل، ومجازر صبرا وشاتيلا، وتلك الدماء التي لونت الذاكرة، وتلك الغشاوة التي تتخبط خبط عشوائي في زواريب المذاهب والطوائف، التي تسدل الستار دائماً على رعب أتون الحرب الأهلية، وفجيعة أهل “شادي” الذي رثته فيروز..
كان لبنان يعيش عصره الذهبي ثقافياً وفكرياً وسياسياً واقتصادياً، قبل زمن الحرب الأهلية الطاحنة التي كانت هي حروب للآخرين على أرضهم، قبل أن ينزلق به الآخرون وهم كُثر، إلى منحدر الصراعات الداخلية والخارجية، ويتحول إلى كرة مطاطية يشارك في اللعب بمكوناتها الصغار والكبار، في محاولة منهم لذبح وحدته الوطنية وتقديمه قرباناً لمصالح قوى متنفذة لا تريد أن تبقى في الوطن العربي واحة يتنفس من خلالها أنسام الحرية، ويتبلور على ساحتها مفهوم الرأي والرأي الآخر، وحتى لا يكون هذا البلد على صلة وثيقة بالعصر الحديث وقيمه الاجتماعية.
لبنان متعدد الوجوه كما الغابة، بلد المتناقضات الرأسمالية الفاحشة والفقر المدقع.. الحرص والتبديد.. الإلتزام واللامبالاة.. البحر والبر.. النظام والفوضى.. الموت والقيامة.. السياسة القبيحة والفنون الجميلة.. وأيضاً الحرب والسلام.. والتصدعات حتى الرعب.. الإختراق والتجاوز…
بيروت:
حكمها المصريون عندما احتلها تحتمس الثالث، عندما طرد الهكسوس من مصر ولاحقهم، وسيطر عليها الآشوريون والكلدانيون والفرس بعد الفراعنة، ثم ضمها الإسكندر الأكبر إلى إمبراطوريته بعد أن هزم الفرس، وتعرضت لأول دمار على يد الملك الهيليني “ديودوكوس ترنون” وأعيد بناؤها على النمط الهيليني، وعرفت وقتها بـ “الأوديسيا” الفينيقية، وفي القرن الأخير قبل الميلاد احتلها الروماني “ماركوس أغريبا” وأطلق عليها بيريتوس السعيدة “جوليا أغطس” تيمناً بابنه الإمبراطور، وأصبحت جزءاً من الإمبراطورية الرومانية، وبنيت فيها المسارح والحمامات، وأصبحت مدينة رومانية كاملة الحقوق قبل الميلاد بأعوام، حيث ساد فيها القانون الروماني الشهير، وأنشئت فيها مدرسة لتدريس الحقوق استمرت على مدى ثلاثة قرون، واستحقت لقب “أم الشرائع ومرضعة العلوم” إلى ان دمرتها الزلازل في القرن السادس الميلادي، وربما كانت تلك الزلازل أول امتحان لبيروت بالمصائب والكوارث.
في القرن السابع الميلادي فتحها معاوية بن أبي سفيان في عهد الخليفة عمر ابن الخطاب، وأعيد ترميمها وحصنت بالقلاع وبقيت تابع لدمشق، واستعادها ملك البيزنطيين “يوحنا زيمترياس” في نهاية الألفية الأولى للميلاد، ثم استعادها المصريون بقيادة جوهر الصقلي، ثم احتلها الصليبيين لمدة مئتي سنة إلى أن حررها صلاح الدين الأيوبي، وتناوب على حكمها مع الصليبيين إلى أن استعادها الملك الأشرف وأصبحت تابعة لولاية طرابلس الشام، التي كانت مرتبطة بالقاهرة مركز السلطة المملوكية، ثم جاء العثمانيين الذين تغلبوا على المماليك واحتلوا الشام عام 1514م.
عرفت بيروت تراجع المهن والأعمال الصناعية والتجارة في تلك العهود، حتى جاء الأمير فخر الدين واهتم بعمران المدينة فازدهرت من جديد وانفتحت على أوروبا، واشهر المعالم التي أنشأها فخر الدين برج الكاشف، والتي تنسب إليه ساحة البرج التي أطلق عليها لاحقاً ساحة الشهداء.
وفي نهاية القرن الثامن عشر احتدم الصراع بين حاكمها الأمير يوسف الشهابي، وبين أحمد باشا الجزار الذي أعدمه ومنع الشهابيين وسكان الجبل من الإقامة فيها، إلى أن فتحها إبراهيم باشا ابن محمد علي، لتستعيد دورها مرة أخرى وازدهرت أعمالها الحرفية والتجارية، ثم تولى ولاية بيروت الوالي العثماني سليمان باشا وعظم شأنها في عهده، وأصبحت ملجأً للموارنة لينجوا بأنفسهم من الصراع في جبل لبنان ودمشق.
شهدت بيروت خمسة آلاف عام من الزلازل والانهيارات والتصدعات والاختراقات والحروب والاحتلالات المتعاقبة، انتهت بالانتداب الفرنسي إلى أن حصلت على استقلالها عام 1943، ترك منها آثاره على معالمها، الحمامات الرومانية، وأعمدة بتيجانها وزخارفها، وأسوار وقلاع ومبانٍ مازالت شاهدة على التاريخ حتى الآن، كالسراي الكبير والمستشفى العسكري التركي، وبرج الساعة والعديد من الكنائس والكاتدرائيات للروم الأرثوذكس الكاثوليك والموارنة، والعديد من الجوامع كالجامع العمري الكبير.
تعرضت بيروت عبر تاريخها الطويل للكوارث القديمة والمعاصرة، وفي كل مرة تعود لنهوضها من الرماد، وعانت من حرب أهلية قاسية تركت آثارها البشعة في كل مكان، لكن اللبنانيون أثبتوا حيويتهم وسرعتهم، فأعادوا إنشاء الأبنية التحية، وأقاموا المراكز السكنية والتجارية، وعاد النشاط لشوارعها التجارية، ولعل أكثرها شهرة شارع الحمراء وشارع المقدسي العامران بمقاهي الرصيف والمطاعم، ومنطقة الروشة وزيتونة بيه والداون تاون وسوليتير الممتلؤن بالفنادق والمقاهي والمطاعم الفخمة، لم يبقى من آثار الحرب الأهلية المدمرة إلا بعض الأماكن، أبقاها اللبنانيين عن عمد لتذكير الأجيال بتلك الحرب البشعة وتفادي وقوعها من جديد.
أهل بيروت أكثر الناس مقدرة على السخرية منذ أن عبدو إلهاً خاصاً بهم “بعل بيريت” سيد بيروت، وأتى ذكرها منذ ألف وخمسمائة عام قبل الميلاد في رسائل “تل العمارنة المسمارية” كما أتى ذكرها في رسائل “رب حنا” ملك جبيل، في العهد القديم “بيروته” في سفر حزقيال، وكذلك جاء اسمها “بروتا” الآرامية التي تعني الصنوبر.
في بيروت المسارح ودور السينما وقاعات المعارض التشكيلية، لقد أغرم ببيروت الفنانون والأدباء والشعراء الذين منحوها أجمل قصائدهم، فهي عند محمود درويش “النجمة الأخيرة”و”الخيمة الأخيرة” وكما قال عنها: “تفاحة للبحر، نرجسة الرخام، فراشة حجرية بيروت” فيها عاش سنين طويلة وحضر الصراعات التي تعرضت لها المدينة، ومنها حصار العدو الصهيوني عام 1982 واحتضنت بيروت مجلة شؤن فلسطينية التي ترأس درويش تحريرها، ومركز الأبحاث الذي أداره، فعلى مدى عشرة أعوام عاش درويش التجربة اللبنانية، ورغم أن قبلته كانت فلسطين، إلا أنه أودع جزءاً من روحه في بيروت التي كانت تشغله بأسرارها، فقد كانت ولا زالت حاضنة الثقافة والصحافة والفنون تفتح صدرها للجميع، هي أم الشعراء وأم الإعلاميين وأم الفنون، وأم الرحابنة وفيروز، وجبران خليل جبران، الذي حمل حكمة الحروف وجمال الكلمة وإيحاءات الريشة إلى أنحاء العالم، وأم ميخائيل نعيمة، المفكر الشاعر والقاص والمسرحي والناقد وكاتب المقال المتأمل في الحياة والنفس الإنسانية، صاحب الأصداء الطيبة التي علقت في نفوس عدد من المثقفين الذين استوعبوا جزءاً من رسالته الإنسانية وأدركوا أهميتها، ليس بالنسبة إلى العرب وحدهم بل بالنسبة إلى العالم أجمع، وأم مي زيادة، وأمين معلوف، وسعيد فريحة، وانسي الحاج، وسهيل ادريس… وغيرهم الكثير ممن أثروا الأدب والشعر والفن العربي.
في بيروت صحافة نشطة قل نظيرها في المنطقة العربية، صحف ومجلات متنوعة الرؤى والإنتماءات تصدر بأكثر من لغة، كدار الآداب حيث تصدر المجلة الأشهر مجلة الآداب، والتي حملت المحاولات الشعرية الأولى لكثير من شعراء اليوم إلى قراء العربية، وكانت نافذة للمبدعين العرب من مشرق الوطن العربي ومغربه، وأيضاً صحف السفير والحياة والنهار والأنوار وعشرات الصحف والمجلات ودور النشر العالمية.
كلما زرت بيروت نزلت في فندق رمادا الروشة “سفير” سابقاً، أحب هذا الفندق وأرتاح جداً فيه، حيث يطل على البحر وصخرة الروشة، وقريب من شارع الحمراء والداون تاون.. وكل ما أحب أن أزوره، عرفتني جدارن الفندق ومصاعده، تماماً كما عرفني موظفو الإستقبال وموظفي “الهوس كيبن” وطهاة ومضيفو مطعمه.
ومن أهم معالم بيروت:
صخرة الروشة
على مر العمر في كل زياراتي كنت أزور صخرة الروشة، فكما يحفر العمر أخاديد في وجوهنا، يحفر الزمن أخاديد وجبال وصخور في الطبيعة، وإذا كانت أعمارنا تقاس بعشرات السنين، فتعريت الزمن للطبيعة تقاس بملايين السنين، فالزمن نحات موهوب يستخدم تقنيات قديمة قدم الأزل، منها التعرية والتسطيح والصقل والتسننين، أدواته لا تقل طعناً في القدم، كالأنهار والبحار والرياح والأمطار والرذاذ، ينتج منحوتات لا يقدر على نحتها البشر، ولا يكون الزمن مستعجلاً إنما يأخذ وقته ويعمل على راحته، إذ لا يطالبه أحد بتاريخ محدد لإنجاز أعماله التشكيلية ولا ينتظر أتعاباً عليها، ولا يعرض قطعه النحتية في المعارض والمتاحف، فالطبيعة هي معرضه ومتحفه العملاق، ومن أجمل أعماله صخرة الروشة على شاطىء بيروت.
مغارة جعيتا
تعتبر من أشهر الكهوف والمغارات، وهي عبارة عن مغارة من تجاويف وشعاب ضيقة، وردهات وهياكل وقاعات نحتتها الطبيعة، وتسربت إليها المياه الكلسية من المرتفعات، لتشكل مع مرور الزمن عالماً من القباب والمنحوتات والأشكال والتكوينات العجيبة، وتنقسم لقسمين العليا يتم السير فيها على الأقدام، والسفلى تتم زيارتها بواسطة مراكب صغيرة، وتعتبر جوهرة السياحة اللبنانية.
جونيه
منطقة سياحية على خليج ساحلي شمال بيروت، ومنها استقلينا “التلفريك” للصعود به إلى تلة حريصا.
حريصا
هي تلة جبلية تعد من أبرز أماكن الحجيج الموارنة في لبنان، تقع فوق سفح جبل وفيها كنيسة السيدة حريصا وفوقها انتصب تمثالاً للسيدة العذراء، وتطل على خليج جونيه بمنظراً رائعاً رأينا منه جزء كبير من بيروت وامتدادها حيث اتسعت عما كانت من زمن وترهلت وزحفت على مساحات واسعة من الضوء والإخضرار، إن من لم ير بيروت من أقرب مكان لها في الجبل لا يمكن له الإدعاء بأنه رآها تماماً، أو استوعب تكوينها الديموغرافي، كمدينة عربية أحسن الإنسان اختيار موقعها من ناحية، وأغدقت الطبيعة عليها من الجمال ما يفيض عن حاجتها من ناحية ثانية.
مطعم منير
يقع في منطقة “برمانا” على جبل مرتفع يطل بإطلالته الزجاجية على مشاهد من بيروت والمناطق القريبة منها، وتتبعه حديقة فاتنة على منظراً يأخذ الألباب، استطعنا أن نرى أجزاء من تفاصيل المدينة وامتدادها، لقد تم اختيار مكان المطعم بالإبتعاد عن الأماكن العامة التقليدية، وعن ضجيج المدينة ومصادر التلوث، وهنا تجدر الإشارة إلى دور أصحاب المطعم وموظفينه بحرصهم لأن يجعلوا قيمة للمكان والذاكرة، ويظهر هذا في موهبتهم في توظيف الإمكانات الجمالية للموقع، والإستفادة من كل ربوة وصخرة ومساحة ومكان بالمطعم، فالموهوبون هم وحدهم من يصنعون أماكنهم لتكون قريبة من الوجدان، وكم من أماكن ومطاعم رأيتها أفسدها ذوق أصحابها وسلبها خصوصيتها، فلا يكفي على الإطلاق أن يكون المكان جميلاً إذا خلا من لمسة فنية تأسر الروح قبل العين، وما كان لمطعم منير بالوحته المبهرة أن يكون على ما هو عليه من دون تلك اللمسات الفنية التي ترافق حتى أطباق وأصناف الطعام بمذاقاته المتنوعة واللذيذة جداً، كلها من الذوق العالي والذكاء اللماح لموظفينه وإدارته، يصعب على الكلمات نقل مؤثرات مطعم منير وما يتركه من انطباع بديع.
كانت بيروت بعيدة المنال، لم نكن بعد قد ضيعنا القلوب في هواها والأعمار على صفحات جرائدها وفي مقاهيها وشواطئ بحرها المفتوح على الدنيا. من قلبي سلام لبيروت وقُبل للبحر والبيوت لصخرة كأنها وجه بحار قديم “جوزيف حرب” يا ست الدنيا يا بيروت، من باع أساورك المشغولة بالياقوت “نزار قباني” أسكن بيروت ولا أراها، وحدي أنا والحب والثمار نمضي مع النهارنمضي إلى سواها “أدونيس” يا وردة البحر ويا جزيرة الأحلام، يا عمري الجميل مكتوباً على الرمال والأصداف والغمام “سعاد الصباح”.
مدينة جبيل
أقدم مدينة مسكونة في العالم “بيبلوس” تبعد عن بيروت شمالاً مسافة 37 كبلو متراً، تتكىء على البحر كعروس رائعة، بين الحداثة والقدم والتاريخ والتطور، تجدل جبيل العتيقة عراقتها، وتختزن آثاراً لا تقدر بثمن، جعلت اسمها يقترب من آذان كل الكون، هي مدينة الحرف والتاريخ والجمال، في كل ركن منها حكاية ولكل حكاية تاريخ، الحمامات الرومانية مفتوحة عند باب بيبلوس، والحجارة سميكة جداً ونظيفة، درج “سلم” البلدية مبني بشكل عقد طويل ورفيع، ينفرج آخره عن طبقة يختلط فيها القديم والجديد، فجبيل تحاول أن تحافظ على شكلها القديم، على حجارتها الرملية وأزقتها المتواضعة ومهنها القديمة، لكن الحاضر يضغط عليها في بعض الأماكن، السياح يأتون بالباصات يزورون قلعتها لساعات، ويجولون في الأحياء القديمة، يتناولون الغداء في مطاعم متناثرة بجانب تلاطم الموج وفي الشوارع المرصوفة بحجارة تتلائم مع المشهد التراثي العام، المطاعم مطعمة بما يغني التراث، الكراسي القش والخشبية تنتشر في المطاعم، والطاولات معظمها من الخشب القديم الذي لا يتعارض مع قدم الحجارة والأرصفة والأبواب والمحال، وهي مفروشة بألوان تريح البصر والفكر والروح، والقناطر تضفي جمالاً وجاذبية على المكان، أشهر مطعم في جبيل “كاف أحيرام” الذي يقدم القريدس “الجمبري” والأسماك الطازجة، وكان يتردد إلى المطعم بعض الرؤساء اللبنانيون مثل: سليمان فرنجية، ورينيه معوض، وكميل شمعون الذي كان يصل على يخت برفقة أصدقائه إلى المطعم، وأيضاً الرئيس الفرنسي جاك شيراك كان يأتي المطعم في زياراته للبنان.
المدينة مليئة بالآثار والرسوم والنقوشات، الآثار تتناثر والسوق القديمة مقفلة أمام المركبات، مفتوحة أما المشاة، البحارة ينطلقون فجراً في البحر بحثاُ عن ثرواتهم، دروب سور جبيل القديم تختزن محطات حية في مدينة تغيرت أسماؤها بتغير العصور، فحملت حيناً اسم جبلاً، ثم أعطيت اسم فينيقياً، وبعدها اسم بيبلوس تيمناً بنبتة البردي التي ذاع صيتها في التجارة، كنائس وجوامع جنباً إلى جنب، قديمة بأغلبيتها مبنية من الحجارة الرملية وسقوف العقد العالية والقناطر الطبيعية، نساء يجلسن على كراسي قش أمام محال متواضعة مفروشة على طول السوق القديم، يبيعون الطرابيش الحمراء والطنطور اللبناني الأصيل “غطاء الرأس النسائي” الذي هو على شكل مخروطي، والأباريق والأشغال اليدوية المختلفة، والمجسمات والتماثيل الفينيقية التي تصنع في معمل وحيد خارج جبيل في البقاع يمتلك هذا الامتياز، مهنة التنجيد تكاد تنقرض فمؤسسة صليبا تصنع اللحف والحرامات “البطانيات” الحديثة وعليها رسوم وتطرزعلى بعضها عبارة “ما أجمل أرزك يا لبنان”.
مدينة صور
تبعد عن جنوب بيروت مسافة 40 دقيقة بالسيارة، مشيناهم بمحاذاة البحر ونحن نهمس له بمشاعر جمة، وننظر إليه فنشعر به باسماً، هو ربيع لبنان والبحر في الربيع يبتسم غالباً، لقلعة صور تصل باصات السياح ويتقاطر الركاب نحوها، القلعة الشامخة تعترض طريقنا طالبة منا زيارتها، طلاب مدارس يأتون لها، وأحجارها تكاد تنطق بحكايات، مرشدون سياحيون يجولون برقفة زوار يريدون أن يروا كل شيء ويعرفوا كل شيء، الصيادون ينطلقون فجراً في البحر بحثاُ عن أرزاقهم، والمراكب تحمل أسماء بشر: سعاد ـ إلياس ـ بدور ـ عمر… المطاعم تزدحم بالزبائن الذين يتذوقوا أشهى المأكولات البحرية، ويتناولون بعدها كؤس الشاي أو فناجين القهوة وهم يصغون إلى صوت فيروز ينساب في الحنايا، ورائحة البحر تفوح طيبة وشمس تغوص في البحر تبهر النظر وتزيد جاذبيته روعة على الميناء، دروب كثيرة وكل درب يقود إلى حكاية، المحال التي تعرض منتجاتها، مهن قديمة انقرضة أو تكاد تنقرض فالحداثة بدأت تسحب البساط من كثير من المهن القديمة، كان السوق القديم مليئاً بالحدادين والنحاسين والكندرجيين “العاملين في تصنيع الأحذية” رجال كبار قاربوا الثمانين وبعضهم تخطاها لا زالوا يعملون بحرفهم، ورثوا المهنة عن آبائهم وأجدادهم، تستوقف صناعاتهم بعض السائحين، ومصانع الصابون التي تستهوي السياح ويشاهدون طرق التصنيع والمواد والأشكال، وزرنا الكثير منهم.
مدينة بعلبك
تقع في سهل البقاع ويمر بها نهر الليطاني، فيها آثار ومعابد شيدها الرومان، ويقام فيها مهرجانات عالمية، استمتعنا بقضاء يوم كامل فيها والتقطنا بعض الصور على أنغام صوت فيروز “ياقلبي لا تتعب قلبك بحبك على طول بحبك، بتروح كتير بتغيب كتير وبترجع عادراج بعلبك”
كفر شيما
هي بلدة تطل على بيروت من جهة الشرق، وصلنها قادمين من بيروت غرباً بعد أن قطعنا مسافة 12 كيلو متر، واستقبلتنا بنسيمها العليل وبساتين البرتقال والأكي دنيا والزيتون والصنوبر والورد المتدلي كالثريات، فيها عيون ماء كثيرة عذبة الماء الفاتر شتاءاً وبارد صيفاً، وصفها المؤرخ نقولا نجيب في كتابه “تاريخ كفر شيما” بصاحبة العيون السوداء الدعجاء كعيون المها.
كفر شيما ضيعة “قرية” الأسماء المضيئة في سماء اللغة والشعر والفن وأيضاً السياسة، فمنها شيخا اللغة ناصيف اليازجي وابنه ابراهيم اليازجي، اللذان كانا من أهم أركان النهضة العلمية في القرن التاسع عشر بمصنفاتهما اللغوية والشعرية الكثيرة كـ “مجمع البحرين ـ عقد الجمان ـ اللامعة في شرح الجامعة ـ ثالث القمرين ـ نجعة الرائد ـ العلوم عند العرب” كما صححا أخطاء اللغة العربية وأزالا الشوائب عن الكثير من الشعر، وأيضاً ابنته الشاعرة وردة اليازجي التي كتبت أجمل الشعر ولها ديوان “حديقة الورد” وكانت موصوفة هي وأخيها ابراهيم بسرعة الحفظ، واليازجي معناها “الكاتب باللغة التركية” حيث أن أجدادهم كانوا كتبه لدى الولاة الأتراك، ومن كفر شيما أيضاً مؤسسا جريدة الأهرام المصرية عام 1875 الصحفيان سليم وبشارة تقلا، اللذان أضاءا سماء الصحافة العربية بها لتبقى حتى يومنا هذا، وكان لهما الكثير من المقالات الساخنة، التي تعرضا بسببها للسجون والنفي والهروب من مصر، ومن ثم العودة من جديد واستمر فيها جبرائيل تقلا بعد وفاة والده بشارة، وأيضاً من كفر شيما الطبيب والشاعر والفيلسوف شبلي الشميل، الذي عاش في مصر أيضاً وأصدر مجلة “الشفاء” عام 1986 وكتاباً شرح فيه نظرية الإرتقاء لداروين بعنوان “فلسفة النشوء والإرتقاء”، ومن كفر شيما أيضاً الصحفي رشيد فارس نصر، الذي أسس جريدة “الأردن” والمطبعة الرشيدية التي لعبت دوراً كبيراً في طبع الكتب وتعليم فن الطباعة، ومنها أيضاً السياسي أمين كاسباني الذي كان أمين سر الملك جورج ملك بريطانيا، ومستشار الملك فيصل، ومنها أيضاً الموسيقار والملحن ومكتشف “جارة القمر فيروز” حليم الرومي وابنته الفنانة الرائعة ماجدة الرومي، الموسيقار والملحن والمسرحي فيلمون وهبه، والمطرب ملحم بركات، كما أثرت كفر شيما على جارتها ضيعة “وادي الشحرور” التي منها الفنانة صباح وعمها الشاعر الزجلي خليل شحرور.
جبال الشوف
زرناها مرات ومرات وخاصة في الشتاء حيث كنا نقضي أوقات ممتعة باللعب بالثلج، وأهم ما في جبال الشوف:
بيت الدين
بناه الأمير بشير الشهابي في القرن التاسع عشر، ويعتبر هذا البيت العريق المقر الصيفي لرئاسة الجمهورية، على بابه عين ماء عزب، شربنا براحة كفينا من المزراب كما أيام زمان، لا ينقصه إلا الصبايا الجميلات يحملن الجرار على أكتافهن مملوءة بالكثير من الذكريات وقصص الحب التي كانت تحاك على مرأى من العين.
قصر موسى
قلعة قصر موسى بناها موسى عبد الكريم المعماري بمفرده واستغرق 60عام في البناء، وحوله إلى متحف يتضمن شواهد من تراث وفلوكلور لبنان ويخصص كل مدخول القصر من أجل إكمال مشروعه.
تقضي الدهاليز من بعدها الأبواب إلى الباحة الخارجية، التي تطل على روابي بيت الدين وحقولها المزروعة بالأشجار المثمرة وغير المثمرة، والمزدانة بالبيوت المبعثرة يمنةً ويسرةً.
هو ليس متحفاً عادياً يحتوي على أدوات ومشغولات تراثية، بل هو الحياة بذاتها تجسدها مجسمات لأشخاص حقيقيين عاشوا حقبة تاريخية وعاصرهم الحاج موسى بكل تفاصيلها، تشدنا من حيث لا ندري إلى الماضي القريب والبعيد، لننسى حاضرنا ونغوص في الزمن الماضي، ففي كل زاوية من زواياه تفوح رائحة الماضي وذكريات الحاج موسى.
مغارة عين وزين
هي مغارتان فيهما عيون مياه عذبة تخرج من باطن الأرض تم الكشف عنهما أثناء حفر ووضع أساس أحد البيوت التي كان سيتم بناؤها، لكن صاحب المكان حولهما لمكان سياحي، حين دخلنهما كان صوت صباح يصدح عالياً كجبال لبنان ” ع الضيعة يمة عالضيعة وديني وبلا هالبيعة، جينا نبيع كبوش التوت ضيعنا القلب ببيروت”
جنوب لبنان
زرنا الجنوب في 2011 وبرغم انه كان ممنوع على غير اللبنانيين الوصول للجنوب، ألا أن ابتسامات صديقتانا للأمن على الحواجز الأمنية كانت هي جواز مرورنا في كل نقاط التفتيش في الجنوب، ووصولنا حتى نهاية الجنوب حيث قرية مارون الراس وهي حدود لبنان مع فلسطين المحتلة، ثم عدنا لبيروت وقمنا بزيارة بيت الأصدقاء حيث دعونا للعشاء والسهرة معهم.
المزيد من الموضوعات
أسامة حراكي يكتب: التراث
وزارة الثقافة تحتفي بمبدعي ومثقفي مصر في إحتفالية “يوم الثقافة ” 8 يناير القادم…
عمر الشريف يكتب: فلا يؤذين