اعتدت كل يوم أن أخلو لنفسي لحظات أفكر فيها، وفي ما مر علي من أحداث، ولا أعد يوماً لم أتمكن فيه من هذه الخلوة، أحياناً أرى أنه يوم عادي لم يجر فيه إلا ما كان مألوفاً، وأحياناً أرى ما يهز مشاعري ويقلق عواطفي، فأرى مثلاً من كنت أعده موطن وفاء ومركز صداقة، قد باع صداقته بأرخص الأثمان وصدر عنه ما ليس له تفسير إلا الجحود والنكران، وتبين أنه كان صديقاً مخلصاً يوم كان يأمل في قضاء مصلحة، فلما قضى مصلحته تنمر وتنكر، وسألت نفسي في إحدى الخلوات: ماذا كنت تستفيد من تجاربك لو حييت حياة ثانية وعدت لشبابك؟ فقلت: كنت لا أؤمن بالناس كما كنت أؤمن، فكل من رأيت إنما يطلب الخير لنفسه، وإنما يعرفك ويتملقك إذا أحس بالحاجة إليك، ويمقتك ويكرهك إذا أحس الحاجة عند غيرك، وقد علمتني الحوادث أن لا شيء من المال يساوي الصحة، خصوصاً إذا جمع على حساب الصحة، وأن أقرب أقربائي حتى أولادي، ليستأهلون أن تضيع الصحة في سبيلهم، وأحياناً أفكر في ما هو أوسع من ذلك في الإنسانية جمعاء، كيف يغيب عن زعماء العالم أن في الحرب ضرراً للجميع، المنتصر والمهزوم، وأن الغاية التي يسعى إليها الزعماء مهما تكن، لا تساوي ما يهدر من دماء وأموال، وأن الجهود العملية لو بذلت في خير الإنسانية لتقدمت البشرية، وأن العقل الضيق وحده هو الذي جعل فروقاً بين الشرق والغرب، والمسلمين والمسيحيين واليهود، وأن الناس لو عقلوا لأدركوا أن الدين لله وحده”.
هذا جزء من مقالة وجدت فيها من أجمل ما كتب كاتبنا ومؤرخنا الذي تمر اليوم ذكرى وفاته، وتتماشى مع كل عصر.
ولد في اكتوبر عام 1886 بالقاهرة من اسرة محافظة تتمتع بقدر كبير من العلم والمعرفة، التحق بالمدرسة الابتدائية ثم الأزهر ثم بمدرسة القضاء الشرعي التي تخرج منها، ثم عين مدرساً استاذاً بكلية الأداب بالجامعة المصرية، ثم عميداً لها رغم أنه لا يحمل درجة الدكتوراة، ثم تركها ليساهم في إنشاء أكبر مجلتين في تاريخ الثقافة العربية هما: “الرسالة”و”الثقافة” كما عين بعد ذلك مستشاراً لوزارة الثقافة فمستشاراً لوزارة التربية والتعليم، وفي سنة 1946 عين مديراً للادارة الثقافية لجامعة الدول العربية، كما عمل لأربع سنوات في القضاء وعُرف عنه فيها التزامه بالعدل وحبه له، وفي فترة من الفترات كان قاضياً في قرية في الواحات، يعيش أهلها عيشة بؤس لا يملكون إلا عدد محدود من شجر النخيل وعين ماء، فذهب لأداء صلاة الجمعة في مسجد القرية، وإذا بالخطيب يحث أهل القرية على مقاطعة أوروبا وعدم قضاء الصيف فيها، فذهل لما يسمعه حيث لم يسافر أحد ابناء القرية للقاهرة من قبل، فكيف سيسافروا لأوروبا، فعجب من سماجة وجهل الخطيب الذي لم يوفق في اختيار موضوع الخطبة بما يفيد أهل القرية، فقال: إن أكثر المتكلمين في الأخلاق من أمثال هذا الخطيب لا يعرفون زمانهم ولا أمتهم ولا يعرفون موقف أمتهم من زمانهم.
واستفاد من عمله بالقضاء أنه كان لا يقطع برأي إلا بعد دراسة وتمحيص شديد واستعراض للآراء والحجج المختلفة، إلى أن عُزل من سلك القضاء لدفاعه عن أستاذه عاطف بركات.
دفع النجاح الذي حققه في سلسلة كتبه الدينية ضحى االإسلام وفجر الإسلام وظهر الإسلام، الكثير من الأدباء إلى تقليده في الإتجاه إلى هذا النوع من الأدب، وروى أدق تفاصيل حياته في كتاب حياتي، ومن مؤلفاته قصة الادب في العالم، فيض الخاطر، إلى ولدي…
وهو صاحب المقولتين الشهيرتين:”أنا أصغر من أستاذ وأكبر من عميد” “أريد أن أعمل لا أن أسيطر” ويقول ابنه الاقتصادي المعروف جلال أمين، أنه لم يره مرة من دون كتاب.
هو الأديب والمفكر والمؤرخ والكاتب أحمد أمين، الذي توفي في مثل هذا اليوم 30 مايو 1954 بعد أن ترك لنا كم من المؤلفات الأدبية وأكثر من 900 مقال.
المزيد من الموضوعات
أسامة حراكي يكتب: شاعر الزوايا المغلقة.. ارتور رامبو
حاكم الشارقة يتفقد “جناح الهيئة المصرية العامة للكتاب” في “معرض الشارقة الدولي للكتاب” ويثني على إصدارات وزارة الثقافة…
عمر الشريف يكتب: سماء الحرية