أسامة حراكي يكتب: برد الطريق
كنت أسخر من الأفلام العربية حين يمد أحدهم يده للنصف الفارغ من السرير ليتأكد من وجود نصفه الآخر، الآن أمد يدي للنصف ذاته كي أقيس مساحة البرد حولي، ففي كل حكاية هناك بئر عميقة نقذف بها الكثير من الأسرار والكثير من التفاصيل، وحين تنتهي الحكاية نغلق البئر على محتواياتها ونمضي، لكن حنيناً ما قد يعيدنا إلى البئر، فنبعثر محتواها ونتذكر.. وأحياناً نبكي، فثمة أشخاص لايغادرونا رغم أنهم بعيدون عنا، فبعض الذكريات تعترضنا بعد انتهاء قصة كاملة النمو كأنها كائن حي لا ينقصها سوى أن تنادينا بأسماءنا.
لا أعلم ما الذي دفعني هذا المساء إلى دخول عالم الحب وإقلاق ظلمة مماته بعد مده طويلة، ربما هو الخذلان الذي أمسى سمة العصر، أو ربما بسبب لحظات مرت بي، لحظات توقف فيها الزمان على عتبة باب حكاية، وتوقف دوران الدنيا أمام إمرأة كنت أعشقها، لحظات أرعبني فيها سرعة الأيام وأقلقني فيها مرور العمر وعجلة السنوات، لحظات مررت فيها على قديم ذكرياتي وأحزاني ليس مرور الكرام، فقد كنت أظن أن في إمكاني تخزين تفاصيل قصتنا في صندوق محكم الإغلاق، أفتحه عند كل ذكرى للحنين، وأن ظهور صورة لها بالخطأ أمامي لن تحرك إحساسي إليها، لكني اكتشفت أن الأحاسيس لم تمت وفاجئتني بعودتها للحياة عند أول ظهور، وتذكرت كيف بعد انتهاء قصتنا كنت أذهب للأماكن التي كنا نذهب إليها معاً، وكيف كنت أعتقد أن الأماكن تشتاق لمن زاروها وتحتفظ بعطرهم، فكنت أمر على كل الأماكن استنشق غبار زواياها، بحثاً عن شوق يعيد إليَ الزمن، لكني اكتشفت أن الأماكن صماء لا تسجل أحاديث من مروا بها، وعمياء لا تحتفظ لهم للذكرى بصورة، فالفراق يصبح كالأماني المكسرة التي نخدر بها ألماً ما كي نعاود الوقوف بعد سقوط كاسر.
فاسترجعت في ذاكرتي مرحلة من مراحل حياتي، وأصعب ما في هذه المرحلة، هو أننا نضطر عند الاختيار إلى التنازل عن أمور كثيرة، كانت ذات عمر من أساسيات أحلامنا وحياتنا لكننا نتنازل كمحاولة متأخرة للسير مع اتجاه الطوفان، بعد أن نكون قد قضينا أغلب العمر وأجمله في السير عكس اتجاهه، ظناً منا أن الحب أقوى من الطوفان، لكن نكتشف خديعة الحب حين نلمح العمر غريقاً تحت بقايا الطوفان، فعندما نبدأ رحلة الهبوط نتنازل عن حق الاختيار ونفقد الكثير من الثقة بنا، وتتحول أحلامنا إلى عدو ظالم وننتقل من مرحلة الاختيار لمرحلة الاضطرار، وفي مرحلة الاضطرار لا ندقق في الأشياء كثيراً، لأننا نكون تحت وطأة نهاية ما ربما نهاية حلم أو صحة أو شباب، أو نهاية عمر.
وبعد انتهاء اللحظات اكتشفت أنه كان عليَ أن لا أمنح لظهورها أهمية تدفعني إلى نزف الكثير من الصحة، وكان عليَ أن أتعامل مع ظهورها على أنه حالة اكتشاف مبكر لمرض آن الآوان للتخلص منه وبتره مني، فتخلصوا ممن لا يستحق البقاء بكم واتركوا بينكم وبين الأقرب مساحة تقيكم أثر الاكتشاف ودهشته، فلا تثقوا بالحب كثيراً مهما تكن قوة قبضتكم عليه، فربما يوماً يترك يدكم فارغة لبرد الطريق.
المزيد من الموضوعات
أسامة حراكي يكتب: المرأة والعنف ضدها
عمر الشريف يكتب: ليتني أعود طفلاً
أسامة حراكي يكتب: في يوم الطفولة العالمي