لاحظت منذ فترة طويلة أن هناك اتجاهًا عامًا لدى معظم الناس للتعاطف مع الزعماء السابقين على الفترة التي ولدوا فيها بالضبط، فتجد أحدهم مثلًا ينقب دائمًا في حقبة عبد الناصر، ويتمنى العيش في الستينيات، مع أنه من مواليد منتصف السبعينيات. وتجد من ولدوا في عهد عبد الناصر نفسه يحنون لعهد الملك فاروق، رغم أنهم سمعوا عنه فقط. أما الذين عاشوا في عهد الملك فاروق اليوم، وينظرون بحنين لعهد الملك فؤاد، فيتم النظر إليهم اليوم على أنهم عجائز يعيشون في فترة ما قبل التاريخ! لكن لماذا لا نسمع في كندا مثلًا عن تحيز شديد لپيير ترودو ضد خلفه برايان مالروني أو ستيفن هاربر ضد سلفه پول مارتن؟ السبب هو أن النظام في مصر يحمل مسحة شخصية personalized بمعنى أنه يأخذ طريقة تفكير رأس الدولة (إلى حد التماهي مع شخصيته وصداقاته وعداواته). فكل تغيير في شخص الحاكم يعني اختلافًا عن السياسات السابقة في الحكم (يصل إلى درجة الانقلاب الكامل على ما سبق في كثير من الأحيان). وإذا كان مؤيدو الساسة في النظم الديمقراطية في الغرب يذهبون إلى بيوتهم في نهاية اليوم فيعيشون حياتهم الطبيعية، فإن المسألة ليست كذلك في النظم السلطوية في العالم الثالث، إذ يعيش المرء مع زعيمه قلبًا وقالبًا، فالتعصب والتماحك على أتفه الأمور وصلت إلى أبعاد فانتازية، والمشاحنات والاستقطاب والتخوين والاتهام بالعمالة صارت كلها أمورًا “عادية جدًا” لا تثير أحدًا هناك! ولأن السادات هو صاحب الشعبية الطاغية في مصر اليوم- لو طبقنا النظرية السالف ذكرها- لدى قطاع كبير من الشباب الذين لم يعيشوا في عهده لكنهم يشعرون بالحنين إليه (أو ولدوا في نهاية عهده لكن وعيهم تفتح في العهد التالي له)، فدعونا نستعرض أهم ما يقوله أعداء السادات عنه. أشهر اتهام وجه للسادات كان أنه صفى القطاع العام في مصر، وأنه كان السبب في تحويل مصر من نظام اشتراكي “ينتج كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ” حتى أصبح مجرد نظام رأسمالي “لا ينتج شيئًا”، ويصرخ معارضو السادات بأن سياسته الاقتصادية كانت مجرد انفتاح فوضوي. وأخطر اتهام وجه للرئيس السادات هو أنه أغرق مصر في “مستنقع الكامب” (المقصود هو اتفاقيتي كامب ديڤيد ومعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية)، وفصلها عن محيطها العربي، وأضعف القضية الفلسطينية، وأعطى إسرائيل ما لم تكن تحلم به في تاريخها، وهو الجلوس على طاولة مفاوضات مع رئيس أكبر دولة عربية، ناهيك عن الاعتراف بكيانها المزعوم! ولو استمعت إلى العلمانيين ستخامرك شكوك في أن السادات كان ينوي تحويل مصر إلى دولة خمينية، وأنه لولا اغتيال السادات لكانت مصر تحكم بحدود الشريعة الإسلامية اليوم، ولكان الشادور والبرقع يغطيان رؤوس نساء مصر، تمامًا كما هو الحال في إيران وأفغانستان! ولو قرأت ما يقوله الإسلاميون فستجد أن السادات كان مجرد طاغوت لم يحكم بما أنزل الله (وهو النقيض لما يقوله العلمانيون تمامًا!)، وأن المادة الثانية في دستور عام 1971 (الخاصة باستقاء أحكام القانون من مبادئ الشريعة الإسلامية) ما هي إلا محاولة مسرحية لخداع الجماهير المسلمة. ولو كان محدثوك من الإخوان، فإنهم سيسارعون في أغلب الأحيان إلى الإشارة إلى إعجاب السادات بالزعيم النازي هتلر، وكيف أنه تأثر به في شبابه (كأنهم لم يسمحوا بتصريحات نازية مستفزة في القنوات التلفزيونية الخاصة وقيام مظاهرات ضد الأقباط في فترة حكم مرسي!). وإذا كان المتحدث عربيًا، فمن المحتمل أن يتجاهل السادات (كأنه لم يوجد قط)، أو ستجده متضايقًا من إهاناته للعرب (إذ وصفهم بالأقزام وغير ذلك)، وكيف أن مصر كانت ترسل لهم المساعدات على مر التاريخ، الخ. والمسألة التي تثير عربًا كثيرين بصفة خاصة هي تحول مصر من دولة رائدة في الصراع ضد إسرائيل إلى بلد مهادن- إن لم يكن مسالمًا- لها، وهو ما قلب المعادلة في المنطقة رأسًا على عقب، وربما بات من غير المتوقع تحرير أرض فلسطين وإعادة الحقوق لأصحابها الشرعيين (وقد رأينا جميعًا ما أسفرت عنه المفاوضات المتعثرة على مر العقدين الأخيرين بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني). إلى ذلك، فيحمل الأقباط إحنًا خاصة ضد السادات، بوصفه الرئيس المؤمن الذي أخرج الإخوان المسلمين من السجون، وأطلق الجماعات الإسلامية عليهم، وضايقهم في بناء الكنائس، والأهم لديهم كانت علاقته المتوترة بالبابا شنودة. وغالبًا ما ستسمع كلامًا من قبيل “القزم الذي جاء بعد العملاق” و”المصاب بعقدة من لونه الأسود” و”ضعيف الشخصية” وغير ذلك من الأوصاف والنعوت- أغلبها عنصري- لو كان محدثك من الناصريين. وبالنسبة لهيكل ومن سار مساره، فجنازة السادات تكشف بجلاء عن حياته: فقد توجه إلى الغرب بسياساته، وهي سياسات لم تعبر عن المواطن المصري ولا الشعوب العربية في شيء، ولذلك فقد غاب الشعب المصري وحكام العرب عن جنازته، ولم يسر فيها إلا رتل من المسئولين الأجانب، كبعض الرؤساء الأمريكيين والفرنسيين السابقين، ورئيس وزراء إسرائيل مناحم بيجن. ويوافقه في هذا الرأي د. سعد الدين إبراهيم- أستاذ علم الاجتماع- الذي يرى أن قصة الحب بين السادات والغرب كانت محكومة مسبقًا بالفشل، لأن الغرب بطبعه لا يحب أحدًا، ولأن سياسة السادات حكمت عليه من البداية بالفشل، فكان عليه أن يرضى بأي شيء! لكننا عندما ننظر إلى أهم الاختلافات بين الناصريين والساداتيين نجد أنها مجرد خرافات تاريخية، بل إن معظمها يؤكد ما سبق أن ذكرته في غير موضع، وهو أن “السادات كان المتمم لعهد عبد الناصر”، وأن سياسات كثيرة “فاجأ السادات بها العالم” (كما تميل وسائل الإعلام ومؤيدوه أن ينوهوا بخيلاء، وكما يصيح خصومه متهمين إياه في كل مناسبة) بدأت بالفعل على يد عبد الناصر نفسه! × فعبد الناصر كان من شرع في ترك المشروعات الخاصة تعمل في فترة مبكرة بعد تأميمات عام 1960 بأدنى ضجة ممكنة، وذلك عندما أدرك عام 1962 استحالة نجاح التجربة الاشتراكية في مصر نظرًا لمخالفتها أبسط قواعد الاقتصاد القابل للبقاء viable economy وفقًا لما ذكره د. ستيفن كوك في كتاب ترجمته له منذ عدة سنوات، عرف في مصر باسم “مصر من عبد الناصر إلى ميدان التحرير”. × وعبد الناصر هو من وافق على مبادرة روچرز (التي حملت اعترافًا ضمنيًا بوجود ما يسمى بدولة إسرائيل)، وهي الموافقة التي خرجت بسببها مظاهرات فلسطينية تتهمه بالخيانة وتصفية القضية، وأدانه بسببها زعماء النظم المحافظة والراديكالية في العالم العربي (وعلى رأسهم “صقر العرب” الملك فيصل)، وكان عبد الناصر يعي استحالة الصراع المسلح ضد إسرائيل إلى الأبد (راجع كتاب “السادات” الذي كتبه ديڤيد هيرست وإيرين بيسون وترجمته إلى العربية ونشر منذ عدة سنوات، والجدير بالذكر أنه صدر بعد اغتيال السادات بشهر واحد فقط، وسبق صدور كتاب هيكل “خريف الغضب” الذي صدر في طبعته الإنجليزية عام 1983، وأخذ عنه الكثير). × وعبد الناصر هو من أفرج بشهامة عن الإخوان بعد الوحدة مع سوريا، لكنه فوجئ بأعتى محاولة لقلب نظام الحكم عام 1965 على أيديهم، وهي المحاولة التي تهكمت عليها الصحافة الأمريكية قائلة إن “نظام عبد الناصر بعد مرور عام كامل على الكشف عنها لم يبرأ بعد منها، ولا يعرف مدى تغلغها في قلب النظام!” ولمن لا يعرف، أو يتصور أن عبد الناصر لفق هذه المؤامرة ليتخلص من الإخوان بسببها، فقد وصلته تفصيلاتها عن طريق المخابرات الأردنية، وثيقة الصلة بالمخابرات المركزية الأمريكية! فهل كان عبد الناصر بإفراجه عن الإخوان في المرة الأولى ينوي إغراق البلاد بهم، أو يهدف إلى أن يكونوا أداة ضد غيرهم (خصوصًا الأقباط)؟ × وعبد الناصر- بعد هزيمة 1967- وجه معظم الموارد المالية في الدولة نحو المجهود الحربي، فشحت السلع الأساسية في الأسواق، وأثرت هذه السياسة الاقتصادية على القطاع العام، فأصبح- فعليًا- لا ينتج شيئًا ليست له علاقة بالمجهود الحربي! × وعبد الناصر هو الذي فتح المجال العام أمام المرأة والثقافة والسينما والمسرح على نحو غير مسبوق مقارنة بالعهود السابقة، لكن هذا الفتح كان سلطويًا authoritarian، فكان من السهل الانقضاض عليه من جانب الجماعات الإسلامية بعد ذلك! × ولم تكن هناك دولة مؤسسات يمكن الحديث عنها، وبالتالي فقد كان النظام يعاني هشاشة متأصلة إزاء مناوئيه، خصوصًا من جانب الأطراف التي تزايد عليه وعلى توجهاته، وهو ما دفع النظام الناصري إلى إجراءات متشددة في ملفات كان لا بد من تركها تحل نفسها بنفسها، لا أن يشغل باله بها. وللحديث بقية..
المزيد من الموضوعات
وزير الخارجية والهجرة يستقبل المرشحة المصرية لمنصب نائب رئيس مفوضية الإتحاد الأفريقي…
درجات الحراره المتوقعه اليوم في مصر
اسعار الذهب اليوم في مصر