وسيط اليوم

جريدة الكترونية عربية

قميص سقّارة المزيّن: طقوس عبادة شمسيّة

قميص سقّارة المزيّن: طقوس عبادة شمسيّة

كتبت تغريد نظيف

وسيط اليوم 

 ٢٠٢٢/١٠/٢٥

 اكتشف هذا القميص عام ١٩٢٢ في جبانة سقارة على يد (Cecil M. Firth)، مفتش مصلحة الآثار، ولكن عوضا من أن يرسله مباشرة إلى المتحف المصرى بالقاهرة قام بخزنه في مخزن المصلحة بسقارة. قام من بعده (M. Quibell) باكتشافه بالمخزن ومن ثمّة أرسله إلى المتحف المصرى حيث عُرض لأوّل مرّة بالطابق العلوي تحت رقم ٥٩١١٧.

 عام ١٩٣٣ يذكر الرايس الذي رافق (Firth) أثناء التنقيب عام ١٩٢٢ شيئا عن حوليات الاكتشاف وقد أكّد على أنّ القميص قد عثر عليه داخل ناووس خشبي بصحبة تماثيل صغيرة أخرى من الخشب تتراوح أطوالها بين ١٥ و ٢٠ سم وهي على شكل أشخاص بأثواب طويلة. والتابوت نفسه، ودائما على أقوال الرايس، قد وجد داخل بئر عند الزاوية الشمال الشرقية من هرم تيتي بسقارة. وفي حقيقة الأمر فقد تمّ العثور على ثلاث أبار بالمنطقة، وقاموا بتفريغها، وبئران منها مشار لهما بألواح عديمة الكتابات؛ أما ثالث الأبار فقد احتوى على قارب. وعلى ضوء هذه الأقوال، فالقميص هذا يؤرخ بالعصر البطلمي. ولكن أقوال الرايس جانب عظيم منها صحيح، رغم أنّ (Firth) في سجلاته لا يذكر شيئا عن الأمر، لكن في بعض تدويناته فقد أشار إلى أنّ القميص متأتٍ بالفعل من نفس المنطقة ولكن ليس من بئر. ومهما يكن الأمر، فالقميص بطول ١٣٠سم (بدون الشراشيب)، ١٠٥ سم عرضا من الأسفل و١٧٠ سم عرضا عند الإبطين. طول الأكمام من الطرف إلى الأخر ٥٢ سم، وقد صنعت من قطعة واحدة مستطيلة حيث أُسبلت الزوايا الأربعة منها عند الزوايا للحصول على الأكمام. ثمّ طويت القطعة إلى جزئين، أفقيا، وتمّت خياطة الأطراف، تحت الأكمام وعلى الجوانب. والقماشة من الكتان الجيّد، وقد كان الكتّان يستخدم في حياكة الملابس الليتورجيّة (الطقوسيّة) من قبل المصريين ومن قبل الشعوب التي خضعت للتأثير المصري كذلك.

 تمّت زخرفة أسفل القميص وعند حواف الأكمام وكذلك عند الدروز الجانبيّة بشراشيب قصيرة. كماّ تم تغطية الجانبين والأكمام بزخارف حمراء بلون الدم وعند الأكمام جعلت شرائط مذهّبة. وأمّا عن الرسوم التي رسمت على الظهر والقفا فهي أربع لوحات بنفس الحجم. واثنان منها على الوجهين أطّرا بإطار مربّع ذي شريط متعرّج الزخارف وهى على الأرجح على شكل نبات اللبلاب. نرى كذلك في وسط القميص وفوق الرسوم شريط من النجوم الخماسيّة وهي تمثّل النجوم السماويّة، والّتي استنبط المصرى القديم شكلها من شكل نجم البحر على شواطئ البحر الأحمر (اسمها العلمي L. asterias rubens)، هذا بالإضافة إلى زخارف أخرى عدّة نباتية في مجملها من البيئة المصرية كاللوتس وحتى الوريدات الهندسيّة. ننتقل الآن للحديث عن المشاهد المرسومة:

1- الوجه، اللوحة العلوية:

 وهي ينقصها جزء كبير، وعندها منفذ الرأس. ولكن للأسف بقي من رسوماتها القليل فنرى عند الطرفين ربّتان مجنّحتان وورائهن أفعى الصّل متوّجة بتاج أمون، المكوّن من ريشتان كبيرتان تحيطان بقرص الشمس وهي تعتلي نبات البردي. والربّتان متوّجتان بالريش وقرص الشمس المزيّن بأفاعي الصّل، وكلّ واحدة فيهن تقابل الأخرى (التي اختفت اليوم) التي تمثّل وسط التركيبات، وهي تحتضنها تحت أجنحتهن وهن يمسكن بريش-سكينيّة في كلتا اليدين. وعلى ما يبدو فأرباب المشهد قد رسمت تارة بشكل آدمي وطورا بشكل حيواني. وتحت الشكل الحيواني، نرى الربّ حُر (حورس) يعلو قاعدة، الرّب بشكل الصقر، تعلو رأسه أفعى الصّل بقرص الشمس، وهو ينظر إلى حُر (حورس)، الرّب ذي الشكل الآدمي برأس صقر والجالس على عرش ذي ظهر. ويلبس هذا الأخير ثوب ضيّقا، ويمسك في يسراه صولجان “واس”، الّذي ينتهي في أسفله بعقاف. نرى كذلك عند الطرف السفلي من الإطار، ثلاث مستطيلات أفقية مملوءة بسلسلة متبادلة من علامة الحياة “عنخ” وعلامة السيادة والحظ “واس”.

2- الوجه، اللوحة السفلى

 التركيب شبيه باللوحة السابقة. في الوسط، الرّب جالس على العرش ذي ظهر. على الحافتين، ربّتان (مصر السفلى ومصر العليا؟): تمسك الربّتان صولجان. الرّبة على الشمال متوّجة بالتاج المزدوج “پشنت”، بينما الربّة على اليمين متوّجة بالتاج الأبيض “حچت” بين قرني البقرة، وثوبها ذي أهداب كثوب إست (ايزيس)، وربما كانت الربّة ساكيت ربّة الشلّال؟ حيث تظهر هذه الربّة في معبد خنوم في ألفنتين بين نقوشه وهي تقدم الملك أمنحتپ الثالث إلى الرّب خنوم وهي في هذا المشهد تحضر قدام الرّب خنوم كذلك وعلى كفّ يدها اليسرى علامة ماعت. بينما خنوم مجسّد بشكل آدمي معترش برأس مركبة من أربع رؤوس كباش ويعلوه تاج “أتف”، رأسان من الرؤوس الأربعة ميممة صوب اليمين والأخرتان صوب الشمال، حيث ينظر خنوم هكذا إلى الأركان الأربعة للأفق، إلى “الرياح الأربعة”، إي إلى كل النواحي حيث يرى كل شيء لأنّه الشمس الّتي يجسّدها شكل الكبش، في طيبة تحت اسم آمون وفي جزيرة ألفنتين تحت اسم خنوم.

 وأمامه، وعلى قاعدة جّسد خنوم في كل حيوان الكبش نفسه متوّج بالتاج الأموني (ريشتان طويلتان وقرص شمس بأفعى الصّل وقرون كبش طويلة)، وهو مصوّب نحو خنوم المعترش. في الأعلى، قرص شمس بأفعى الصّل وفوقه أوچات (العين الحامية) تتدلّى من إكليل (من الصفصاف؟).

 يوجد كذلك شخص يتقدّم خلف آمون، وهو ربّ شاب (ضفيرة الطفولة)، متوّج بغطاء “نمس” وتاج “أتف” ثلاثي وثوبه طويل مشدود عند الكتف الأيسر، وبينما يغطى الثوب ظهره فمقدمّ جسده عارٍ وهو يمسك صولجان “واس” ورموز وزير (أوزيريس)، الصولجان “نخخ” وعصا الراعي “حقا”. وفي يسراه يمسك نبّوتا (ربما هنا إلى “حُر-شفيت” وهو حورس الشاب الذي ربطه الاغريق بهيراكليسكوس أي هرقل الطفل أو “أرسافيس” الإغريقي الإله الكبش. وقدام عرش آمون (او خنوم) بالمشهد نرى نبات البردي والنيلوفر ونبات من فصيلة السعديات واللوتس وهي تركيبة بطلمية نراها كذلك في أعمدة معابد هذا العصر كحال معبد ايزيس بجزيرة فيلة.

3- القفا، اللوحة العلوية

 وهو كذلك جزء كبير منه مفقود كحال الجزء العلوي من الوجه وتصوّر شكل الأرباب وتفسير كنههم غير واضح. على اليمين فوق، قرص الشمس بداخله “حُر-پا-غرد” (حورس الطفل/ حربوقراط) بضفيرة الطفولة ويده في فمه، جالس على زهرة اللوتس وتنبثق منه سبع أشعة.

 وتحته ربّ مركّب يضطجع لوحة محمولة على خمس سيقان متفتّحة من نبات البردي وبينها أربع سيقان مغلقة. يتعلق الأمر ها هنا بربّ شمسي، كما يشير إلى ذلك التاج (ريش أمون وقرص الشمل تحفّه أفعتا صلّ من الجانبين). هذا الرّب متّحد العناصر الّتي تتمحور حول ثلاث كائنات حيّة: من الإنسان له ذراعان، من التمساح له الجسد الذيل والسيقان، من الصقر الرأس والأجنحة. وهذا الربّ المركّب يحمل في يده الشمال الرموز الأوزيرية (الصولجان وعصا الراعي) ورمز السنوات في شكل صولجان “رُنپت”: الرّب يمنح هذا الصولجان لأولائك الذين يرغبون في عيش حياة طويلة. الوحش الإلهى إذا يحقق في شكله تجسيدان لحورس الصقر وسوبك التمساح. ومعالم كثيرة تعود للعصر الاغريقي-الروماني تجسّد نفس الرّب حُر-سُوبك. وهذا الأخير ميمّم الوجه نحو ربّة جالسة اختفى الجزء الأكبر منها حتّى أنّنا لا نعرف ماهيتها. وعن ثوبها فهو مزخرف بأجنحة عند الجزء السفلي منه وربّما كانت إيزيس-حتحور؟ وهي الربّة الموسيقية العازفة بجدارة. ونستطيع تخيل باقي الشكل وهي تعزف على آلة وترية. فالأوتار تظهر في الجزء السفلي، والربّة من أجل أن تشدّ هذه الأوتار فهي تضع قدمها على زهرة لوتس بطرف كعبها وذلك بأعجوبة طبعا بغرض دعمها. ووراءه هذه الربّة توجد ربّتان أخرتان تتقدّمان نحوها، ومن خلال الصولجانات، الأولى تبدو أنثى، بينما الثاني ذكر وربما كانا ذكران رغم الثياب القصيرة والسيقان العارية لكن الجزء المفقود يحول دون معرفة ماهيتهما أو ماهيتهن. ولربما كان واحد منهما الربّ “أونوريس”: ثوب بمربّعات كبيرة، نَقَبة مثلّثة ملكيّة ينتهي طرفها برأس فهد. وأفعى صلّ متوجدة بالتاج المزدوج. وتعلو نبات البردي.

4- القفا، اللوحة السفلى:

 على اليمين في الأعلى، الهلال في ربعه الأوّل، وعلى داخل القرص تحوم السبع كواكب، وفي الوسط “إست” (ايزيس) بصدد الولادة، وهي تفتح أذرعها في هيئة علامة “مس” للميلاد في الهيروغليفيّة. لكنّ المختلف هنا هو عدم وجود الطفل حورس وهو ينزل من رحم الربّة لكن عوضا عن ذلك عبّر الفنان عنه بالهلال، لأنّ ايزيس تلد كل يوم القمر، إلى أن يكتمل.

 في الأسفل، نرى هنا وحشا إلهيا آخر يعلو قاعدة ويستقبل قربان ومباركة ربّة مصر السفلى، التي على رأسها التاج لأبيض. وبينهما مائدة قرابين. هذا الربّ الذي سنسميه “سُبك-شپرع”، لأنّه ربّ تمساح بذيل على شكل أفعى الصَل: وكمثل الجعران الذي يدحرج كرة الروث أين يبيض بيوضه، فـ”سُوبك-شپرع” يبدو أنّه يجمل أو يرمى بقرص الشمس إلى وقت ذروتها.

 عند الطرف الأيمن، حيث تتكوّن بشكل سيمتري مع المجموعة التي رأيناها في الطرف الأيسر، فربّة مصر العليا تقوم بإتبهالاتها ومباكرتها أمام مائدة قرابين، إلى طائر “بنو” (الفينيق). ورأس هذا الأخير كرأس الصقر برغم أنّ العنق طويل وملتوي كطائر النحام الوردي. وساقاه كساقا طائر المخوض. وهو يعلو كومة تشير ربّما إلى المحرقة التي يحترق عليها. وفي وسط المشهد، ايزيس متقرفصة داخل بردي أحراش الدلتا، وهي مختبأة هنا هربا من “ست” مع ابنها “حورس” الذي لزال في طور الرضاعة. كما تكثر صور “ايزيس” وهي ترضع “حورس” في وسط أحراش البردي. وهنا الربة لا يبدو أنّها قد جسّدت كربّة أمّ ولكن كربّة عاشقة: “ايزيس” تستند على ركبتها على علامة السلّة “نب”، وتقبض بكلتا يديها على ثعبان طويل متوّج بتاج “أتف” وهو ملتوي حول رقبتها وجذعها. وهو يبادلها قبلة كقبلة حمامتان. وهذا التجسيد هو تجسيد أيقونوجرافي جديد لم يسبق أن ظهر في الفن المصري القديم. وممّا لا شك فيه فايزيس وأوزيريس في شكل ثعبان الّذي عرف في الفترة الاغريقية-الرومانية باسم الثعبان “أجاثوديمون” كان من الايقونات والتجسيدات اللى وجدت لاحقا في الإسكندرية.

 

 ولتأريخ القميص، الذي يعتقد إنّه يرجع إلى العصر البطلمي إلّا أنّ النبّوت الذي يحملها حُر-شفيت بيده يشير وبشكل كبير إلى أنّ القميص على الأغلب يرجع للعصر الاغريقي الروماني وليس البطلمي. كما يبدو أن قميص سقارة هذا يتعلق بعبادة شمسية منبعها مدينة “أون” (عين شمس/ هليوپوليس) فوجود الأرباب: حورس الصقر، أمون-خنوم، حُر-شفيت، حُر-سوبك وحُر-شپرع بالإضافة إلى استخدام لون واحد في الرسم وهو الأحمر والذهب يعزز كل ذلك فكرة كون هذا القميص يتعلق بطقوس شمسيّة بحتة. وعلى ضوء المعطيات الإيقونوجرافية والدينية المرسومة على القميص فعلى أغلب الظن فالقطعة ترجع للفترة الرومانية تحديدا عصر حكم الامبراطور أنطونين في فتره حكمه السادسة.

 

 

Follow by Email
Instagram
Telegram
WhatsApp