وسيط اليوم

جريدة الكترونية عربية

رحلتي إلى بلاد التنين الأحمر.. الصين

تقرير: أسامة حراكي

كنت في صغري أجمع من مصروفي ليرات معدودات حتى أوفر مبلغاً يكفي ثمن كتاب أو مجلة، لم تكن الأمور يسيرة ولا هينة، لا المصروف كبير ولا المكتبات منتشرة، غير أني كنت أستعير من مكتبة المدرسة كتب أقرءها ثم اعيدها، كان الزمان غير هذا الزمان، كنت اكتشف هذه الدنيا من خلال الكتب والمجلات، كانت الصفحات شاشات ذاك الزمان، أصول بها وأجول، أصافح العالم على ورقها، وأرسم بين سطورها أحلامي المؤجلة.

كانت “الصين اليوم” مجلة تكتب بالعربية ليقرأها العرب، شهرية ثقافية مصورة، والصفة الأخيرة بيت القصيد، مع أنه لم تكن أدوات التصوير والطباعة على هذا النحو من اليُسر والحرفية والإتقان، مع ذلك كانت مواضيعها المصورة سفراً لي وتجوالاً في مقاطعاتها ومدنها، أتعرف إلى معالمها وطقوس عيشها وعاداتها وتقاليدها، واكتشفت جوانب من سحر تلك البلاد المترامية خلف سورها العظيم، كانت صورها “سيلفي” لشوارعها ومعالمها، ومنافذ عبوري إلى عوالم اكتشفتها معها قبل أن تدور الأيام دورتها وتغدو الصورة متيسرةً متاحةً للكبير والصغير سواء بسواء.

عندما أصبحت شاباً عرفت أن في الصين لاتزال هناك مناطق نامية، وأدركت حجم التحديات التي لا تزال تعترض الصين من تنمية الغرب الصيني، وقرأت عن الجهود الكبيرة التي تبذل لسد الفجوة الاجتماعية والإقتصادية في البلد، وأن الانفتاح الاقتصادي حقق اقتصادات االأقاليم الساحلية في شرق البلاد بإنجازات ضخمة، بينما تخلف الغرب الصيني عن هذه الثورة الاقتصادية وعجز عن اللحاق بالضفة الأخرى، وأن السلطات هناك تسعى من أجل تنمية الغرب وتقليص الفجوة في الداخل بين غرب البلاد وشرقها.

وفي فبراير من عام 2014 زرت الصين أخيراً وتحقق حلم من أحلامي ووصلنا بكين ليلاً، وفي تمام الساعة 12 منتصف الليل بتوقيت الصين “6 مساءا بتوقيت القاهرة” ونحن في الفندق، سمعنا دوي أصوات مدافع وكأن هناك حرب قد بدأت، وحين استفسرنا عن السبب علمنا أنها ليلة رأس السنة الصينية، وأن هذا العام قد بدأ واسمه عام الفأر، حيث تقضي التقاليد الفلكية في الصين أن يرتبط كل عام باسم حيوان معين في حلقة تتكرر كل 12 عام، وأن التقويم الصيني يتألف من دورة زمنية من اثني عشر عاماً بأسماء الحيوانات، وهي: “الفأر ـ الثور ـ النمر ـ الأرنب ـ التنين أو السمكة ـ الأفعى ـ الحصان ـ الخروف ـ القرد ـ الدجاجة ـ الكلب ـ الخنزير”.

ووفقاً لما تناقلته الأساطير والحكايات الشعبية الصينية، بدأ الاحتفال بالعام الصيني بسبب وحش اسطوري يدعى “نيان” وتقول الاسطورة أن “نيان” كان يأتي إلى القرى الصينية في اليوم الأول من العام الجديد ويأكل الغلال والحيوانات والمزارعين وأطفالهم، ولكي يحموا أنفسهم من الوحش بدأ المزارعون يضعون أمام أبواب بيوتهم الطعام بداية كل عام، معتقدين أن الوحش لن يؤذي أحداً بعد أن يأكل الطعام، ولكن أحد الرموز الدينية عندهم أمرهم بأن يضعوا أوراق حمراء على أبواب ونوافذ بيوتهم لأن الوحش يخاف اللون الأحمر، وأن يشعلوا الألعاب النارية لإخافة الوحش وإبعاده، فلم يظهر الوحش وظهرت الحيوانات في موكب سماوي لتنظيم تسمية الأعوام بأسمائها، فكان هناك حيوان ما في المقدمة، لكن الفأر بمكره نجح في الجري وتخطى الحيوانات وسار في مقدمة الموكب، فبدأت به الدورة الزمنية، ومن يومها ومع اقتراب كل عام أصبح القرويين يعلقون رايات حمراء على أبوابهم ويسدلون على نوافذهم ستائر حمراء، ويطلقون الألعاب النارية.

أضفت هذه الأساطير الخرافية قوة وأصالة على مهرجان الاحتفال، وتمسك الصينيين بتقاليدهم وأخذوها معهم أينما ذهبوا، ورغبتهم في إحياء عادات أجدادهم جعلت لاحتفالات العام الصيني شهرة عالمية، والاحتفال به في الصين وخارجها، وخاصةً في البلاد التي تضم جالية كبيرة من الصينيين، مثل: “تايوان وسنغافورة وتايلاند وماليزيا وإندونيسيا والفلبين وغيرها” وبداية العام الصيني لا يكون إجازات رسمية فقط في الصين، بل حتى في تلك البلدان المجاورة، ومن التقاليد أن يتم تنظيف البيت بأكمله قبل دخول العام الجديد لطرد النحس والأرواح الشريرة، وإفساح المجال لدخول الحظ الجيد إلى البيت، كما يتم تزيين الأبواب والنوافذ بزخارف من ورق وقماش أحمر، وتكون ثيمة الاحتفال هي الحظ الميمون والسعادة والثروة، ويقومون بإشعال المفرقعات والألعاب النارية، ويتبادلون العيدية أو مبالغ صغيرة من المال، توضع في أظرف ورقية أو علب حمراء، حيث تقتضي التقاليد أن يعطي المتزوجون وكبار السن الأظرف الحمراء إلى الأطفال والشباب من غير المتزوجين، ويجب أن يكون المبلغ عدداً زوجياً، لأن المبالغ ذات الأرقام الفردية ترتبط أكثر بالأموال التي تعطى في الجنائز، ويسافر الملايين من الصينيين إلى عائلاتهم خلال الأربعين يوماً التي تمتد فيها الاحتفالات.

 

لأن الصين بلد عريق جداُ له تراث حي حافظ عليه عبر آلاف السنين، فلا غرابة بأن يكون للصينيين طريقتهم الخاصة بهم في فعل كل شيء، حتى في الاحتفال بالعام الجديد، وإذا كان العالم كله يحتفل برأسة السنة وفقاً لتقويم الميلادي يوم 31 ديسمبر من كل عام، فإن الصينيين يحتفلون بهذه المناسبة في توقيت مختلف، بتقويماً صينياً خاصاً بهم، وهي لسيت مناسبة عادية، فهي أطول الاحتفالات وأكبر المهرجانات في البلاد والبلدان المجاورة للصين، فبداية العام الصيني الجديد هي مناسبة غاية في الأهمية بالنسبة إلى الصينيين أينما كانوا على أي مكان في الأرض، فهم يحتفلون فيها بنهاية عام من حياتهم وبداية عام جديد، وتقض التقاليد المتبعة بأن تمتد الاحتفالات بالعام الصيني الجديد من اليوم الأخير في الشهر الأخير من النتيجة “الروزنامة” الصينية، إلى اليوم الـ 15 من الشهر الأول منها، ما يجعل هذا المهرجان أطول مهرجانات السنة عند الصينيين، ويكون اليوم الأول بين 21 يناير و 20 فبراير، يوم متغير لأن الفلكيين الصينيين يتبعون في تحديده حركة القمر وليس حركة الشمس، ومن هنا جاءت تسمية التقويم الصيني بالقمري.

ومن أهم المعالم التي زرناها في بكين:

سور الصين العظيم

سور عالٍ طوله 7 آلاف كيلومتر، هو أحد أهم مواقع التراث العالمي، وواحد من عجائب الدنيا السبع، ويعتبر مشروع عسكري دفاعي قديم وبارز في التاريخ المعماري البشري، يتكون من حوائط دفاعية وأبراج مراقبة وممرات استراتيجية وثكنات للجنود، ويمر بتضاريس جغرافية مختلفة ومعقدة، حيث يعبر الجبال والأجراف ويخترق صحاري ومروج ويقطع أنهار، وأمر ببنائه الامبراطور “تشين شي هوانغ” للحماية من هجمات المغول والأتراك.

المدينة القرمزية المحرمة
من المعالم التاريخية لمدينة بكين، وفيها قصر الامبراطورية وكان محرم على الشعب دخولها، وبعد سقوط الامبراطورية أصبحت من المزارات المهمة بالصين، وصنفتها منظمة اليونيسكو ضمن التراث الثقافي العالمي.

“تيانمين” ميدان السلام السماوي
في 1 اكتوبر من عام 1949 وقف الزعيم الصيني “ماو تسي تونج” على منصة هذا الميدان، وأعلن قيام جمهورية الصين الشعبية، وفي نفس الميدان هرست الدبابات في ساحته عام 1989 أكثر من 500 من الطلاب والمحتجين المؤيدين للديمقراطية بأمر من السلطات الحاكمة.

 

معبد السماء

اسمه الأصلي “مذبح قرابين السماء والأرض” بني في عهد مبراطور اسمه “مينغ” لتقديم القرابين لألهة السماء والأرض، ويختصر اليوم اسمه لمعبد السماء، أثناء زيارتنا شاهدنا الكثير من العجائر يمسكون بأيديهم أطراف خيوط تنتهي بطيارات ورقية ملونة تتمايل وتتزاحم عبر سماء المعبد.

ثم زرنا مطعم ومزار قدم لنا فيه بعض من الطعام الصيني، وتثنى لنا رؤية عينة من احتفالات الشاي الصينية التقليدية وتذوقنا بعضها.. الأكل الصيني عامةً لم يعجبني عدا بعض أنواع السوشي، ومن الغرابة يصلق الصينيون البيض في بول الفتية الصغار الذكور، ويستمتعون بأكله حيث يعتقدون أنه يقيهم من الأمراض، ومن أغرب الأكلات المقززة أيضاً أكل مخ القرد وهو حي، حيث يتم تسكير القرد حتى الثمالة ثم يربط ويوضع تحت طاولة مصممة يخرج منها رأسه، يضربون رأسه بسيف يفتح جمحمته ويستخرجون مخه وهو حي، ويأكلونه وسط حالة هستيريا من القرد وصراخه، وتعتبر هذه الأكلة من أكلات الأثرياء في الصين لأنها غالية الثمن، كما تقدم للضبف العزيز، لكن معظم طعامي هناك كان الأسماك أو فاكهة الأناناس.

قديماُ أقام العرب والصينيون شراكة عبر طريق الحرير البري وطريق البخور البحري، إذ كانوا يتواصلون عبر الصحارى عام بعد عام، ويبحرون بسفنهم الشراعية ليل نهار في البحار الشاسعة، معززين أواصر التواصل بين مختلف أمم العصر القديم، ولا يزال تاريخا الرحالتين “تشنغ خه” و”ابن بطوطة” شاهدين على دورهما كسفراء الصداقة والتواصل بين الجانبين الصيني والعربي، وعبر ذات الطريق انتقلت صناعة الورق وفن الطباعة والبارود والبوصلة، من الصين إلى أوروبا عبر المنطقة العربية، وعلى دروبه أيضاً دخلت إلى الصين علوم الفلك والطب، وهو ما أرسى دعائم مهمة في تاريخ الاندماج والاستفادة المتبادلة بين مختلف الحضارات.

في بلد يبلغ تعداد سكانه أكثر من ملياراً وثلاثمة وخمسين مليون نسمة، كان كل يوم يزداد إعجابي بشعبه الذي تم سحقه بالشعارات الجوفاء أو ما يسمى الكتاب الأحمر، لكنه أعاد تأهيل نفسه في زمن قياسي، وبدأ ينافس الدول التي تقدمته بمراحل في الصناعة والسياحة، فكما قال نابليون بونابرت: “عندما يستيقظ التنين الصيني من سباته سيهتز على وقعه العالم” وهذا بالفعل ما حدث، ففي آواخر السبعينات من القرن الماضي بدأت الصين ثورتها الصناعية الكبيرة، وانفتحت على العالم العصري في كل شيء ما عدا الديمقراطية، لدرجة أن “الفيس بوك” محظور وممنوع ( كان هذا أثناء زيارتي في 2014 ) ففيها حكومة شمولية تحكم البلاد بقبضة من حديد، ومن ينتقض السلطة أو يعارضها يدخل السجن، والغريب أن معظم الصينيين موافقون على هذه الطريقة في الحكم، فبالنسبة إليهم كل شيء يسير بسرعة كبيرة، والنظام الشمولي المستبد هو الطريقة الوحيدة لاحتواء سكان وصل تعدادهم ثلث سكان العالم، ففي الوقت الذي كانت في الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي مشغولون بحرب النجوم، كانت الصين قد حسمت أمرها، وكان “ماو تسي تونغ” مؤسس الدولة الشيوعية في الصين قد رحل.

 

لم تكن الصين مهتمة كثيراً بتصدير الأيدولوجيا بقدر ما التفتت إلى ما هو أكثر أهمية، وهو توفير العمل والطعام لأكثر من مليار مواطن، وهذا لن يتم فقط بتصدير الأفكار، بل بالاستثمار الذي يعني رأس المال، ففي ظل نظام حكم يستند إلى المبادىء الشيوعية في إدارة الدولة، ظهر نوع من الاقتصاد الحر المتحكم فيه اقتصاد ليبرالي، هذه الليبرالية الموجهة اهتمت بالعلاقات مع باقي العالم في مجالات التجارة والاستثمار، فبعد أن كانت جمهورية الصين الشعبية منغلقة على نفسهاعلى غرار بلدان المعسكر الشيوعي، وبعد أن تأملت تجربة الحلفاء الأيديولوجيين وما آلوا إليه، بدأت تدريجياً في إبداء نوع من المرونة والرغبة في الانفتاح على العالم اقتصادياً، للاستفادة من المكاسب التي يتيحها نظام السوق.

تحولت الصين إلى بلد مؤثر في الاقتصاد الدولي، بالاضافة إلى موقعها السياسي القوي من خلال عضويتها الدائمة في مجلس الأمن وما يخولها له ذلك من تأثير في مجريات السياسة الدولية، وضبط موازين القوى لتغطية الفراغ الذي تركه الاتحاد السوفيتي بعد أن أنهكته الحروب الباردة، وفتته “البروسترويكا” تعني إعادة الهيكلة و(هو برنامج إصلاحات إقتصادية أطلقه رئيس الاتحاد السوفيتي وقتها “ميخائيل جورباتشوف” وتشير إلى إعادة بناء اقتصاد الاتحاد السوفيتي، وصاحبت البروسترويكا سياسة “غلاسنوست” والتي تعني بالروسية الشفافية والانفتاح، ويرى البعض أن تلك السياستين أدتا إلى انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه)

ففي عام 1978 فتح الرئيس الصيني السابق “دنغ شياوبينغ” الصين أمام الإصلاحات الاقتصادية متخلياً عن صرامة الشيوعية لكي يحول بلاده إلى ورشة العالم بكل ما تحتوي عليه الصين من مصانع، ومن وقتها أذهلت الصين العالم بتطورها الاقتصادي الذي لا يتوقف، وتحولت إلى أكبر مصدر في العالم متجاوزةً دولاً أخرى، وأصبحت الشريك التجاري الأول للقارة الأفريقية، ويتوقع أن تنزع قريباً من الولايات المتحدة الأمريكية لقب أكبر قوة اقتصادية في العالم، فقد بلغ إنتاج الحديد في الصين نصف إنتاج العالم، بينما تجاوز إنتاجها من الخرسانة 60% مما ينتجه العالم، وفي غضون سنوات أصبحت بطلة العالم في التجارة الإلكترونية، فموقع التجارة الإلكترونية “علي بابا” أصبح الأول عالمياً، متجاوزاً منافسيه الأمريكيين “إيباي ـ أمارزون” كما أن الصين تنتج 20% من الأغذية التي يستهلكها العالم، وأطلقت حملاتها الإعلامية لتشجيع ثقافة المنتجات المعدلة جينياً، كما أن حاجة دول العالم الثالث التي يعاني سكانها من الفقر وضعف الدخل عززت الصين إلى إنتاج منتجات بأسعار تنافسية رخيصة جداً لتأمين احتياجات شعوب تلك الدول من منتجات وسلع بغض النظر عن جودتها، وهذا أمن لشركات صينية سوقاً كبير ممتد عبر العالم.

أصبح الاقتصاد الصيني ثاني أقوى اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن ظل ثلاثين عاماً يحقق نسب نمو سنوية تتجاوز 10% وهي نسبة جيدة ربما لم يتم لأي دولة تحقيقه من قبل، ولعل أكبر المقومات التي توفرت للصينيين لتطوير نموذجهم الاقتصادي، يتمثل في العدد الكبير للسكان الذي تم استغلاله لتوفير يد عاملة بتكلفة أقل مقارنة مع دول أخرى في العالم، وهو ما ساهم إلى جانب التحفيزات الحكومية في مجالات الضرائب والعقار والاستثمارات في البنية التحتية الأساسية، في استقطاب كثيف للاستثمارات الأجنبية، ففي عام 2014 حسب إحصائيات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد” أصبحت الصين على رأس الدول المستقبلة للاستثمارات الأجنبية المباشرة بمبلغ 129 مليار دولار بعد تراجع الولايات المتحدة إلى 92 مليار دولار، هذه الاحصائية تعد إنقلاباً جذرياً في توجهات المستثمرين في العالم، مقارنةً بالعودة إلى إحصائيات نفس المنظمة في التقرير الصادر عام 2001 حيث كانت الصين 41
مليار دولار، مقابل 281 مليار دولار للولايات المتحدة.

لقد حول زخم الاستثمارات الخاصة من أجنبية ومحلية، الصين إلى فاعل رئيسي في التجارة الدولية، خاصةً بعد انضمامها في آواخر عام 2001 إلى منظمة التجارة العالمية، متجاوزة بذلك تحفظاتها المتعلقة بالتحرير الكامل لاقتصادها، ورفع القيود عن مبادلاتها، وما تلا ذلك من إجراءات مثل تخفيض التعريفات الجمركية على الواردات، سواء المواد الموجهة للاستهلاك النهائي، أو مواد أولية لقطاع التصنيع، فأصبحت الصين رقماً أساسياً في حركة التجارة الدولية، وفي حركة الأسعار صعوداً وهبوطاً للمواد الأكثر حيوية، تبعاً لهذه التطورات أصبحت الصين أكبر قوة تجارية في العالم عام 2013 متفوقة على الولايات المتحدة، وتحولت الصين من بلد ظل اقتصاده مرتكزاً بالأساس على الزراعة طيلة المرحلة الماوية، إلى بلد صناعي بطاقة إنتاجية هائلة غزت الأسواق العالمية، والنمو السريع في الصين لم يتوقف عند مجال من المجالات، فأصبحت الصين السوق االأولى للسيارات، وهو الأمر الذي يصب في مصلحة المصانع الغربية لأنهم يسيطرون على الإنتاج، أصبحت الصين تستهلك وتصنع كل شيء من دون أن تشبع، كما أن عطشها للطاقة لا ينتهي، إذ يظهر مراكز للطاقة البخارية كل فترة، وفي مجال الطاقة الشمسية لها مكانة متقدمة، حيث أن كل 6 من كل 10 ألواح طاقة شمسية موجودة في الصين، وأيضاً طواحين الهواء فيها تنتج طاقة بنسبة 30% من مجموع ما ينتجه العالم من طاقة الرياح، حتى في مجال الفنون أصبحت الصين مركزاً ثقافياً للفنون، وباتت دور المزادات فيها تنافس دور مزادات أمريكا.

وعلى الرغم من أن كل هذه الأحصاءات التي تضع الصين في الصدارة، وعلى الرغم من أن البرلمان الصيني يضم بين أعضائه أكثر 80 ملياردير، فإن الصينيين الأثرياء لديهم تطلعات أخرى، حيث بينت دراسة أجراها بنك “باركليز” أن نصف أصحاب الملايين في الصين يخططون للهجرة إلى الخارج في غضون سنوات، ولأسباب أهمها الرغبة في الحصول على تعليم أفضل لأبنائهم، ومناخ نقي فيه مزيد من الاستقرار الاقتصادي والسياسي.

لقد ظهرت في الصين خلال العقود الأخيرة طبقة من الأغنياء الجدد، بعضهم فاحش الثراء، فعقب انتقال البلاد من نظام شيوعي متزمت إلى نظام شبه رأسمالي منفلت مفرط الليبرالية، ركب الموجة أولئك الذين يحظون بالقدر الأكبر من الحذق وروح المبادرة، وبعض الانتهازيين والوصوليين وأصحاب الواسطة المقربين من أعيان السلطة المركزية والمحلية، ومع تحول الصين إلى “ورشة العالم” بما يدر به ذلك الإنتاج الصناعي الهائل من مئات مليارات الدولارات، بزغت طبقة الأثرياء الجدد، الذين يطلق عليهم محلياً اسم “ياو فاهو”هكذا خلعت الصين الزي الموحد الذي امتازت به عقوداً في الماضي القريب، في عهد “ماو تسي تونغ” والثورة الثقافية، والنظام البروليتاري، وفي الوقت نفسه عافت بلاد العم “كونفوشيوس” (أول فيلسوف صيني يفلح في إقامة مذهب يتضمن كل التقاليد الصينية عن السلوك الاجتماعي والأخلاقي، ففلسفته قائمة على القيم الأخلاقية الشخصية وعلى أن تكون هناك حكومة تخدم الشعب تطبيقاً لمثل أخلاقي أعلى) عافت الأحادية الفكرية والاجتماعية والمعيشية والطبقية لكي تجرب بدورها التعددية، بما لها من مآثر وعليها من أعراض جانبية، ففي عام 1996 أطلقت الصين حملة إصلاح للفلسفة “الكونفوشيوسية” كانت محاولة منها للعثور على هوية أخلاقية لها، لكنها كانت دون جدوى حقيقية، فنمط الاستهلاك المبالغ فيه والجري خلف الفخامة والرفاهية وتبذير الأموال، أصبحت أموراً متفشية جداً، وولج الصينيين عالم الاستهلاك وماركات الملابس الفاخرة والسيارات الفارهة والهواتف الذكية.

الصين لا تصدر فقط المنتجات المصنعة، بل تصدر أيضاً الأفواج السياحية، فبسبب الطفرة الاقتصادية التي يعيشها الصينيين، يسافر منهم كل عام أكثر من 100 مليون سائح لدول شتى وتسعى دول كثيرة لاستقطاب السياح الصينيين وفي مقدمتهم مصر.

يظهر الاقتصاد الصيني حتى الآن متماسكاً برغم آثار الهزات الاقتصادية التي تضرب العالم في الفترات الأخيرة، إلا أن هذا التماسك ربما ينهار في أي لحظة وعلى الصينيين أن يقوموا بإزالة الفجوة بين مختلف فئات السكان، بين الأغنياء والفقراء، بين المناطق القروية الفقيرة والحضرية الغنية، تلك المناطق التي قرأت عنها في صباي وعلمت أن هناك بعضها لا تزال موجودة، على الصينيين أن يعو ذلك للحفاظ على تماسكهم الاقتصادي.

 

Follow by Email
Instagram
Telegram
WhatsApp
× اتصل الآن