عبقري الأدب الكولومبي
“لو وهبني الله حياة أطول، لكان من المحتمل ألا أقول كل ما أفكر فيه، لكني بالقطع كنت سأفكر في كل ما أقوله، وكنت سأقيم الأشياء ليس وفقاً لقيمتها المادية، بل وفقاً لما تنطوي عليه معان، وكنت سأنام أقل وأحلم أكثر، ففي كل دقيقة نغلق فيها عيوننا نفقد ستين ثانية من النور، كنت سأسير بينما يتوقف الآخرون، وأظل يقظاً عندما يخلد آخرون للنوم، وأستمتع بالصمت بينما يتكلم الآخرون، كنت سأرتدي البسيط من الثياب، سأتمدد في الشمس تاركاً جسدي مكشوفاً بل وروحي أيضاً.. لو أن لي قليلاً من الوقت، لكنت كتبت بعضاً مني على الجليد، وانتظرت شروق الشمس.. يا إلهي لو كان مقدراً لي أن أعيش وقتاً أطول، لرويت الزهر بدمعي، كي أشعر بألم أشواكه وبقبلات أوراقه القرمزية، ولما تركت يوماً واحداً يمر من دون أن أقول للناس أني أحبهم جميعاً، وكنت عشت عاشقاً للحب، كنت سأثبت لكل البشر أنهم مخطئون لو ظنوا أنهم يتوقفون عن الحب عندما يتقدمون في السن، في حين أنهم في الحقيقة لا يتقدمون في السن إلا عندما يتوقفون عن الحب، كنت سأمنح الطفل الصغير أجنحة وأتركه يتعلم وحده الطيران، كنت سأجعل المسنين يدركون ان ليس تقدم العمر هو الذي يجعلنا نموت، بل الموت الحقيقي هو النسيان”
كانت هذه رسالة وداع الكترونية لجابرييل جارسيا ماركيز إلى أصدقائه وقرائه حين أصابه المرض.
هو روائي وصحفي وناشر، ولد في 6 مارس 1927 في أراكاتاكا بكولومبيا وقضى معظم حياته بالمكسيك، بدأ كتابة قصصه الأولى حين كتب قصة رداً على الكاتب “إدواردو ثالامبا بوردا” الذي لم يكن يكف عن نعي الأدباء الشباب، وتمجيد الأدباء المسنين، فكتب قصة فوجىء بها منشورة على صفحة كاملة من جريدة “الإسبيكتادور” جعلت بوردا يقول: “بهذه القصة يظهر عبقري الأدب الكولومبي” وهكذا استمر ماركيز في الكتابة كي لا يخيب أمل بوردا فيه، وعاش وأصدر كتاب يضم جميع مقالاته، والجزء الأول من مذكراته، بالإضافة إلى رويات عدة، منها خريف البطريرك 1975ـ أحداث موت معلن 1981 ـ الحب في زمن الكوليرا 1986 ـ مئة عام من العزلة 1967 التي لم يكن يملك ثمن رسوم ارسالها للناشر بالبريد، فاضطر لأن يرسل بما يملكه من نقود نصف أوراق مسودة الرواية، وينتظر الناشر حتى يرسل له دفعة من أجره كي يستطيع دفع رسوم ارسال تتمت الأوراق، لتنال بعد مرور 15 عاما جائزة نوبل 1982 والتي بيع منها أكثر من 10 ملايين نسخة، ووضع نقود نوبل في بنك سويسري ونسيها ولم يتذكرها إلا بعد 16 عام، فاشترى بها جريدة ليحقق حلمه ويكتب فيها ما يشاء، لتحقق جريدته نجاحاً يوازي نجاح كتبه.
ماركيز كان يكتب ليكسب مزيداً من الأصدقاء، فأسس ورشة عمل بناء على طلب إحدى القنوات الفضائية، لكتابة 10 قصص مدة كل منها نصف ساعة، أعجبته الفكرة وقرر بالتعاون مع أعضاء الورشة كتابة أعمال كثيرة مختلفة، كوميدية وخيالية ومرعبة أيضاً، يبدأ العمل في طرح فكرة ويشترك الجميع في إنضاجها، ثم يكتبها صاحبها أو شخص آخر من الورشة، أكتشف ماركيز بعد ذلك أن القنوات لا تدفع جيداً، فقرر أن يتولى إنتاج هذه الأعمال بنفسه، فاشترط أعضاء الورشة أن يُكتب اسم ماركيز على كل الأعمال، فقال عن ذلك:”أنه أمر يمكن أن يكون مغرياً، لكنه أكثر ما في الوجود إذلالاً، وأنه يعني ان أحدنا تحول إلى سلعة” فقرروا باتفاق جماعي، أن يُذكر أسم كل مؤلف على كل عمل، واسم ماركيز عنواناً للورشة، وبعد نجاح الفكرة تحولت إلى كتاب بعنوان “نزوة القص المباركة” وهو قريب الشبه من كتاب إعداد الممثل لـ “ستانسلا فسكي” ومن القصص التي طُرحت للنقاش، قصة امرأة متقدمة في السن تتمتع بصحة ومظهر جيدين، ولها أبناء واحفاد وتعيش حياة هادئة، وفي أحد الأيام سلمها ساعي البريد رسالة وجدها ملتصقة بصندوق البريد، عندما جددوا صناديق البريد في القرية، مضى على الرسالة 35 عاماً، وهي من شخص أحبته ولا تزال تحبه لكنه اختفى منذ ذلك الزمن، في الرسالة حبيبها يحدد لها موعداً في مقهى معين يوم الأربعاء الساعة الخامسة مساءً، وسيغادران القرية معاً، فتُطلع أبناءها على الرسالة، وتتضارب الآراء والتعليقات بين هازىء ومتعاطف، لكنها أرملة وليس لديها ما تخسره من ذكرى بعيدة، فتقرر الذهاب إلى الموعد المستحيل بعد 35 عاماً، وهناك يكون هو منتظرها مثلما يفعل كل يوم أربعاء في الساعة الخامسة مساءً، ليثبتا أن الغرام الخالد موجود.
ثم أعلن “جابو” كما كان يطلق عليه أصدقاؤه، عن حاجته إلى المزيد من المواهب، فهو ليس مجرد كاتب مشهور، إنما إنسان صاحب قضية، عن القصة قال: “القصص لاتبنى على القاعدة، وإنما على الاستثناءات، فالقصة تكون أكثر تشويقاً، كلما كان فيها أكبر قدر من مصادفات أصيلة وفريدة، ويجب أن تفاجىء الآخرين” وقال: “أن سلطان الصور أكبر من سلطان الكلمة، الصورة تزيد الكلمة قوة، والمهزوم الأكبر هو الصمت” ماركيز اكثر كاتب عالمي احتفى برواياته وشخصياته التي لم ينساها لحظة.
في حفل تسلمه النويل قال: “لم آت لألقي خطاباً” فقد حاول المستحيل للهروب من الصعود إلى المنصة ومواجهة الناس ولو خمس دقائق، بغرض التحدث عن تجربته الأدبية، حاول أن يمرض باحثاً عن عله ما، ثم توصل إلى حل وهو الذهاب إلى الحفلة الرسمية من غير ربطة عنق، وكانت النتيجة أنه أصبح خطيباً محترفاً.
يعتبر ماركيز أن الشخصية الأسطورية الوحيدة التي أنتجتها أمريكا الللاتينية، هي شخصية الدكتاتور العسكري في نهاية القرن، فزعماء ليبراليون كثر انتهوا طغاة مستبدين، وهو يحمد الله أن الكولونيل أوريليانو بوينديا لم يربح إحدى حروبه الـ 36 وإلا أصبح دكتاتوراً.
هو صاحب أجمل تعليق على فوزر السادات وبيجن بنوبل للسلام، حيث قال:”الرجلان اقتسما الجائزة، لكن المصير اختلف من أحدهما إلى الآخر، فاتفاقية كامب ديفيد ترتب عليها بالنسبة للسادات، انفجار بركان الغضب داخل جميع الدول العربية، فضلاً عن أنه دفع حياته ثمناً لها في أكتوبر 1981 ، وبالنسبة لبيجين، فقد كانت الاتفاقية نفسها بمثابة الضوء الأخضر، ليستمر بوسائل مبتكرة في تحقيق المشروع الصهيوني، كما أعطته الغطاء اللازم حتى يذبح بسلام 2000 من اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات بيروت.
وتوفي جابرييل جارسيا ماركيز في 17 ابريل 2014 عن 87 عاماً
المزيد من الموضوعات
أسامة حراكي يكتب: شاعر الزوايا المغلقة.. ارتور رامبو
حاكم الشارقة يتفقد “جناح الهيئة المصرية العامة للكتاب” في “معرض الشارقة الدولي للكتاب” ويثني على إصدارات وزارة الثقافة…
عمر الشريف يكتب: سماء الحرية