جوهر الوجود وميزان النجاح
الكتابة تُخرج ما في أعماقنا الدفينة في ذاتنا لتلاقي الآخرين وتعرفهم بتفاصيل في حياتنا وحياة المعنى الذي يتفاعل داخلنا باستمرار، فالكتبة هي خلاصة فكرنا ومشاعرنا وتجاربنا في الحياة، تخرج للنور كمقال أو قصة أو رواية أو قصيدة، تكون عصارة أخذ ورد وكر وفر، فيفترض من حيث المبدأ أن تقول أعمالنا شيء للآخرين، وهذا جوهر وجودها وميزان نجاحها، أما ما هذا الشيء؟ فهنا نجد أنفسنا أمام احتمالات عديدة، تكاد تكون كل واحدة منها تختص بفلان أو علان، وما تنقله الرواية إلى زيد، لن يكون حتماً ما نقلته إلى عمرو، المهم أن تنقل شيئاً ما إلى المتلقي.
عندما تكون الكتابة فنية، أي مبتكرة وفيها مسحة من الإبداع، يكون أداؤها مهماً بقدر أهمية الفكرة، لدرجة أن الكتابة الحديثة تُقييم على أساس الأداء أو التكنيك، كما أشار الكاتب الفرنسي “سيلين” بأهمية التكنيك في العمل الأدبي.
الكتابة فكرة تتكون ثم تضمحل في الذهن وتتلاشى لتعود بعد حين في شكل مغاير وفي حلة جديدة، في كل مرة تعود الفكرة في الذهن، تأتي وكأنها جديدة تماماً، جامحة وذات إيقاع محبب إلينا، وهذا الإختفاء والظهور سواء كان يشكل جزئي أو كامل، يعني أن الفكرة أصبحت جاهزة للتنفيذ، فنبدأ بنقل ما قد اتضح لدى الذات على الصفحة البيضاء.
كم هو منهك ومؤذ التفكير والكتابة ونحن مضطربون أو مراقبون، فعندما نبدأ بالكتابة نضطرب ونفقد لحظة التجلي عندما ننتبه إلى أن هناك من يراقبنا ويحصي علينا أنفاسنا، فتفقد الذات عفويتها وسلاستها، وتأتي الكتابة ممزوجة بقالب من الشمع، بعيد عن المشاعر وخفقات القلب، كأنه مجسم جميل ومبهر، لكنه غير صادق.
ما قيل وما يقال في قصيدة أو رواية أو قصة أو مقال أو عمل مسرحي، تصنيفه يأتي من الجمهور ومن الوقت الذي طرح فيه، من امتداه في الماضي نحو المستقبل، لذلك نحن لا نقترب من الكتابة إلا ونحن عازمون على قول كل ما لدينا، فربما الصدق وراء ذلك، فالكلمة الصادقة تؤثر في سامعها، وهنا هو رائيها، أي المتلقي، فتستفزه وتحرضه أو تقنعه أو تحبذه على العمل، فينتقل نبض الكتابة كسريان الكهرباء من صانعها إلى متلقيها، فمن صفات الصدق في العمل أو القول، الإنهاض والإستنهاض، وهذا ما يكون عند المتلقي القوة والقدرة على النهوض والسير والعمل… وهذا هو الأمل في حد ذاته.
الكتابة قد تكون فكرة أو ومضة من فكرة، لكن الكتابة في جميع الأحوال هي مجموعة جمل ومفردات تَلازمها يشكل معنى ما، وهذا المعنى هو الذي يبقى ويعطي المقال أو الرواية…. جواز سفر لدخول قلب القارىء فيشعر بالكاتب، فالمشاعر هي النسيج والعطر الذي يوشح الكتابة، فالمشاعر هي النبض الذي يغمرنا حين نقرأ لكاتب صادق، هي النقلة التي تحصل لنا ونحن في حضرت ذلك الكاتب، وإذا بنا نصبح في حالة من التواصل أو ربما الحوار، أو حتى النقاش الحاد مع ذاتنا ومع ما نتصوره من خلال ما نقرأ.
منذ دخولنا عالم الكتابة ونحن نبحث عن ذاتنا، وفي البحث عن الذات نوع من البقاء، ومع الإطلاع تبين لنا أن من أراد البقاء أو سعى إليه، يحتاج إلى معرفة وإتقان وتشرب ما فعله السابقون، وبعدها تبدأ كيمياء التفاعل بين ما هو سابق وما هو معيش، وما هو متخيل وما هو ضارب في المستقبل، جيل الكتاب الذي ننتمي إليه هو نحن، الجملة التي نعبر بها يجب ان تكون نابعة مما يدور في زماننا، والتقييم عندما يتم سيكون بناء على مشوارنا بكل ما فيه من نواقص وفشل ونجاح، ولابد من القول ومن غير لف أو دوران، نحن في الكتابة كما سائر الأمور “السياسية مثلاً” إما تراثيون وإما مقلدون، وكل ما قيل ويقال عكس ذلك غير صحيح.
تعبنا من الكتابة فقد أحرقت الجزء الأجمل من أعمارنا وتركت لنا من رماد الذكرى الكثير، فليت الكتابة كانت مهنة خارجية نقدم استقالتنا منها ونتنفس بعمق، لكنها داخلية.. وداخلية جداً.
المزيد من الموضوعات
عمر الشريف يكتب: ليتني أعود طفلاً
أسامة حراكي يكتب: في يوم الطفولة العالمي
امسية ثقافيه وندوة ادبية بمقر حزب الوفد بطنطا…