عودنا الكاتب والروائي والسيناريست الراحل الأستاذ «محمود أبو زيد» رحمه الله على لون درامي شعبي يتسم بعمق الرسالة، وفلسفية الطرح، فتراه في فيلم «الكيف» عندما حاول جاهدا إثبات وهمية الكيف، وأن الشعور بالسعادة المؤقت ما هو سوى شعور مختلق، تفرضه “القعدة” والصحبة الجميلة، وقد يستطيع مركبٌ مُصَنَعٌ معملياً أن يعطي نفس الشعور بدون مواد مخدرة، إن توفر له المناخ الفكاهي الذي يكون أثناء تدخين الحشيش الأصلي، غير أن صاحب الفكرة الدكتور “صلاح” غاص -دون أن يدري- في أوحال الجريمة، بعدما اكتشف أنه قد أهدى باعة “الكيوف” الشقة على المحارة، لينقشوها هم كما يريدون.
ثم فيلم «العار»، والذي عرى فيه فقه التبرير والفتاوى “التيك أوي”، والتي تحرم الخمر وتبيح الحشيش، وألقى الضوء على شريحة الأخسرين أعمالاً، أولئك الضالين سعياً وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، ثم فيلم «الذل»، ذلك العمل الساخر الذي أبرز فيه محاولات البعض الوصول بالحلال للمال، فإن عجزوا جربوا الحرام، فإن عجزوا قلبوا الحلال حراما، أو العكس، ولو حاولت الحديث عن كل فيلم من أفلام العظيم محمود ابو زيد فلن يتسع المجال. بيد أني الآن أود الحديث عن فيلم الراحل «جري الوحوش»، والذي هو حبة لامعة من حبات مسبحة الأستاذ رحمه الله. ذلك العمل الأعجوبة. والذي نستطيع استنباط منه حقاقَ مذهلةً.
على سبيل المثال: سعيد أبو “الدهب” الغني الثري، والذي يخاف من ذهاب ماله بعد وفاته إلى ورثته الذين يكرهونه ويكرههم، فيحاول أن ينجب طفلا حتى لو دفع فيه نصف ما يمتلك! فيصطدم بصديقه الطبيب الباحث “نبيه”. فيعده الأخير بأن بحثه الجديد سينهي مشكلة العقم في العالم، وذلك عن طريق زرع فص من الغدة النخامية يسمى الفص الأمامي أو «Anterior lobe». من شخص سليم للآخر العقيم، فيستبشر سعيد بالفكرة، ثم يبحث عن شخص يقطع منه تلك القطعة. ويكون المشهد “المستر سين” والذي جمع بين سعيد و”عبد القوي شديد” الذي يعمل “منجدا” فيشرح سعيد العملية وهو جاهل بها. فيقول له عبد القوي بعدما أخبره بأنه يريد “حتة” من غدته التي توجد فوق “القفا” ليستطيع الإنجاب فيرد: «أول مرة أعرف إن الواحد بيخلف بقفاه»! كلمات كوميدية ساخرة، لكنها تعكس مدى ثقافة المتلقي، والتي لا تزيد كثيرا عن المتحدث، فكلاهما يتحدث في أمر طبي معقد جداً. بطريقة جاهلة سخيفة لا ترتقي لأقل درجات الفهم.
إن معلومات المنجد عبد القوي عن الإنجاب لا تتعدى قدرته على الانتصاب القوي، وقذف الماء الوفير الدافق، وأن من لديه ذكورة لديه خصوبة، أو أن المصطلحين مترادفان، أما من أين يأتي الماء؟ وما الغدة المسؤولة عن تصنيعه! والعوامل الوراثية والجينية الضرورية. فكل ذلك ليس لديه أدنى معلومة عنه، وليس مستعدا لهذا. تستطيع الجماع القوي الممتع للطرفين إذن تستطيع الإنجاب، وأن من لا ينجب لا ينتصب ولا يمتع، وأن أي عطل في الإنجاب يكون بالضرورة بسبب ضعف الانتصاب.
وكان نتيجة ذلك أنه أصيب بالضعف الجنسي النفسي والذي نتج عن دخوله في معترك علمي ضخم على عقله البسيط، فبظنه أن غدته نقصت قطعة، تسبب ذلك له بضعف.. حاول الأطباء طوال الوقت إقناعه أنه سليم معافٍ. وأن ما يعانيه هو (وهم نفسي) لا أكثر.
حتى سعيد، عندما خوفه صديقه المحامي عبد الحكيم من ممارسة الجنس مع شابة تصغره مرض، ثم أصيب بالشلل بعدما أحس أنه قد فقد كل شيء، المال. والأمل في الإنجاب! ما يثبت مدى ثقته في الصديق المحامي، رغم ظهوره طوال الوقت بمظهر المختلف معه، المكذب لكافة حكمه وأمثاله، والغير راض عن حالة “الدروشة” التي يعيش فيها. غير أن الحقيقة كانت عكس ذلك تماماً.
إن عبد الحكيم هو صوت الدين، والذي كثيراً ما نختلف معه عندما يقف حائلا بيننا وبين رغباتنا، فنكذب الأحاديث، ونضعف منها ما نشاء، ثم نتهم المتحدثين بالمبالغة.. لكن بداخلنا الحقيقة ناصعة البياض، وهي أننا نؤمن به غاية الإيمان، ونصدق كلامه كل التصديق. حتى ولو تظاهرنا مؤقتا بعكس ذلك. ولو هاجمنا وانتقدنا واعظينا.
إن حال الاثنين يذكرني بمن أوهموا أنفسهم بأنهم مرضى بالفيروس المكذوب، أولئك الذين تمادوا حتى ماتوا، بعدما تعرضوا لجرعة مكثفة من المعلومات العلمية المتضاربة، والتي يكذب بعضها بعضا.
فالإنسان الذي تخبره بأن الفيروس قد يكون بداخلك لمدة أربعة عشر يوما دون أن تدري به، سيظل طوال الفترة يخمن! هل هو بداخلي؟! هل فعلا أصبت ولا أدري؟ ولذلك أبلغ الأثر في أن يمرض دون مرض، ويقتل دون أداة. تماما كظنون عبد القوي شديد. عندما ظن أن صديق سعيد “نبيه” الطبيب والذي أجرى العملية لهما ربما جامل سعيدا فقص “التورلوب” كله! أو على الأقل أغلبه. وأنه بذلك قد أمسى منقوصاً، إن لم يكن معطوباً بالكلية، وأنه قد أصبح لا يستطيع الإنجاب مجدداً. الإنجاب الذي هو عنده القدرة على الإشباع. لأنه من البداية يشكو من كثرة العيال. لكنه يريد أن يشبع أنثاه.. وعلى حد فهمه لن يقدر على ذلك وهو بنصف تورلوب. أو ربما بدون كله!
لقد نجح القوم في إخافتنا من مجهول، ولما أرادوا تعريفنا به عرفونا بطريقة مغلوطة، فحدث فينا كالذي حدث مع المنجد، أصبح لدينا معلومات علمية نحفظها عن ظهر قلب، لكن ليس لدينا الفهم الصحيح لتوظيفها بشكل جيد. لقد جن عبد القوي آخر الفيلم، بعدما لم يستطع ترتيب الأوراق، بين تحاليل وآراء أطباء تجزم بصحة بدنه، وبين أفكار سوداء ناتجة عن سوء ظن وفهم معا، جعلت من عقله غسالة ثياب كهربائية. تعقد الثياب أكثر مما تنظفها، وتذيب الألوان والأصباغ قبل أن تظهرها. فتخرجها فلا تكاد تفرق بين أبيض وأسود وأحمر وأخضر، لتمسي النتيجة في النهاية كلوحة سريالية.. تحتاج لمن يفك طلاسمها.
المزيد من الموضوعات
كلمة للتاريخ يوما ما سيجئ الحساب…
بالبنط العريض…
بريهان العبودى تكتب.. الغدر ونكران المعروف