قصة قصيرة (شجرة الجميز العتيقة)
بقلم/ أحمد التهامى قاسم
تفتحت كل العيون والبطون منذ الصغر علي ثمار شجرة الجميز العريقة التي تقبع تحتها ليلا ونهارا العجوز الشهيرة (ست البلد) التي تبلغ من العمر مايقرب من المئة سنة أو يزيد ولا يعرف أحد عمرها الحقيقي، ولم يكن لدي حيلة واحدة إلا القبض علي مرآتي المكسورة بين أصابعي النحيلة كي أزغلل بها عينيها العمشتين حتي تترك عتبة الباب من شدة شعاع الشمس الضارب في وجهها عن بعد في أول الشارع لتهرع إلي وسط الدار، حتي يتسني لنا أن نتسلل نحن الأطفال الصغار لتسلق شجرة الجميز أونلقي بالطوب والحجارة الصغيرة علي ثمار الجميز الأحمر والمشقق بالسمار، ونتسابق لجمعه بأحجار جلابيبنا مسرعين ناحية مسجد القرية نلتهمه من شدة الجوع، ثم نعاود الكرة يوميا علي هذا الحال، وخاصة في أوقات القيلولة وعز الظهر، وكنا نلقي ببعض الثمرات الحلوة لإحدي النساء والبنات اللائي يخبزن بالفرن البلدي المشتعل طوال اليوم بحطب القطن والذرة لخبيز أغلب نساء أهالي القرية، والمواجه لشجرة الجميز في مقابل رغيف الخبز البلدي مع (الأبورية) السخنة المحلاة بالسمن البلدي مع السكر أو العسل الأسود، وكيزان الذرة المقلية والبطاطا الطعمة المشوية، ثم نجري خائفين من أحد الرجال الممسك بعصاه أو الشباب المنتمي لأصحاب شجرة الجميز المنسوبة للعائلة بالقرية وكأنها إحدي العواصم الكبري وأهم المواني بالبلد، كانت الفروع الممتدة والمدلاه علي أسطح البيوت المبنية بالطوب اللبن كدور واحد أو علي الأكثر دورين فقط بالمقاعد، ومتشابكه مع (زواليع) الغلال المخزونة طوال العام وكيزان الذرة المرشقة علي جميع الأسطح والمنازل الطينية، وعلي كل صاحب فرع مدلي علي بيته أن يقوم بتختيم ثمار الجميز الأخضر حتي يطيب ويستوي ويحمر ثم يجمع ويوزع علي بيوت العائلة والبيوت المجاورة، كأشهي فاكهة آن ذاك، وكان من نصيب الرجال الجالسين طوال النهار والليل علي المصطبة الذين ينصتون ويستمعون لنشرات الأخبار اليومية لنكسة عام ١٩٦٧م بالراديو الترانزوستر أبو بطارية القديم أوالحجارة الشهير وسماع الست أم كلثوم وصالح عبد الحي والست منيرة المهدية، وعبد الوهاب وحليم وقنديل وغيرهم، والإستماع يوميا لقرآن السهرة باذاعة القرآن الكريم، فكانت شجرة الجميز أشبه بالمنتجع الكبير للقرية لمناقشة كافة المشكلات والأحداث اليومية الهامة ومعرفة كل الأخبار المحلية والقومية والعالمية للرجال والنساء والشباب والصبايا والفتيان والأطفال طوال اليوم، ماعدا فصل الشتاء ليلا، فكان الفانوس الزجاجي المعلق بإحدي الفروع بالشجرة وبه لمبة الجاز يضاء حتي يطفأ لأسباب كثيرة ومتعددة حتي آذان الفجر، فتؤلف القصص والحكايات بوجود الجن والعفاريت والشياطين تحت الجميزة، فلا يستطيع أشجع الرجال المرور ليلا تحت هذه الشجرة المخيفة لاشاعة وجود وظهور بعض الأرانب المختبئة والقطط والعرس والدواجن، والمعز والخراف فيخشي الجميع أن يسحر، وهربا من رؤية الجنية المختفية بين تلك الفروع الضخمة العتيقة المظلمة، والذي يقسم أغلب الأباء والأجداد علي أن جذوع شجرة الجميز العتيقة ممتدة إلي القرية المجاورة التي تفصلنا بها ترعة القاصد الموازية للطريق الأسفلتي الزراعي لمرور السيارات القادمة من القاهرة إلي طنطا والأسكندرية، والعكس تماما، وقد اكتشف ذلك من خلال شهر الجفاف لمياة الترعة والمحملة بطمي النيل ومعه حب العزيز الأصفر المسكر صاحب الطعم الجميل أيضا، والذي لا يقل عن طعم ثمار الجميز المسكر، وكنا نحن الاطفال الذين تشبعنا من البلهارسيا وتشبعت بنا وتشعبت في شرايننا ودمائنا، كحب العزيز، نتعلم السباحة والعوم يوميا في مياهها للشرب من خلال القلة الفخار الكبيرة، وكم تسابقنا للعوم والسباحة والنجاة من الغرق كثيرا جدا، في أواخر الستينات، وقد تم شفاء البعض منا من خلال طابور الوحدة الصحية للقرية وأخذ الحقن والجرعات اليومية، وبعد إنتصار أكتوبر المجيد لعام ١٩٧٦م وقدوم الإنفتاح علي مصراعيه، سافر الكثير من الشباب إلي بعض الدول والبلاد العربية، فتحسنت الأحوال وتبدلت الأمور وهدمت البيوت وبنيت العمارات الشاهقة أكثر من دورين وثلاثة وأربعة وخمسة، وكانت فروع الشجرة عائقا للبناء والإرتفاع، فقطعت بعض الفروع تلو الٱخري وبقي الأصل مرتفعا والجذع العميق، ولم يعد للفرن مكان وتبدل الخبز البلدي بخبز الفينو لمخابز المدينة، وكانت طلمبات المياة النقية بديلا، وأهمل الزير وتعفر وكسر واختفي الكوز والقلل القناوي، وتزاحمت البيوت وتنافست البنايات المرتفعة الشاهقة، وانقسمت العائلة واشتد الصراع بين مؤيد ومعارض لقطع الجذع الضخم لتوسيع المكان وبناء مكانه دكان حلاقة أو ستديو تصوير بدلا من الذهاب للمدينة لإستخراج البطاقة الشخصية، وهذا ماحدث وكان، وتفرقت السبل والمآرب والأهداف، وافترق الأهل والأقارب والجيران والخلان، وضعفت الروابط الاسرية والعلاقات الاجتماعية، وانقسمت العائلة بعد إنقطاع الحبل السري لشجرة الجميز الأصيلة من قديم الأزمان وسالف الأعمار وعلي الدنيا وعلي الأهل السلام دون أدني كلام ياسادة ياكرام وذلك بعد اختفاء شجرة الجميز العتيقة ومعها كل العلاقات والأحلام الوردية الجميلة، وتوتة توته خلصت الحدوتة، ونسيت تماما شجرة الجميز العريقة وثمارها المختومة بأنامل واصابع الأجداد والأباء والأهل والأعمام والأحباب والأنساب المحبوبة جدا بالقرية الطعمة الحلوة القديمة إلي قلوبنا جميعا من زمن فات.
المزيد من الموضوعات
كلمة للتاريخ يوما ما سيجئ الحساب…
بالبنط العريض…
بريهان العبودى تكتب.. الغدر ونكران المعروف