خلال مرحلة حل جماعة الإخوان وفقدان السيطرة على أعضاء التنظيم السري
وقيامهم باغتيال النقراشي باشا رئيس الوزراء، حاول البنا إيجاد مخرج مع الحكومة المصرية وسلطة القصر
فخرج ببيان شهير، كفر فيه من خطط وقام بعملية الاغتيال، وقال عنهم «ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين»، ولكن مع ذلك لم تنجح محاولاته في امتصاص غضب السلطات، ثم وقعت حادثة اغتياله في فبراير 1949، وكان المتوقع أنها ضربة قاصمة ستقضي على التنظيم وتشتته، لعدم وجود بدائل قوية تلم شتات الجماعة في ظل تفاقم الخلافات والانقسامات، كما أن أي خيارات لتنصيب بديل من أعضاء التنظيم كانت ستفضي إلى نزاعات، وهذا بالإضافة إلى أن حسن البنا كان شخصية بالغة التفرد في قراراته وإدارته للتنظيم، ولم يمهد لتجهيز بديل له، لدرجة أنه على الرغم من أن الشيخ أحمد حسن الباقوري كان وكيلاً للمرشد، إلا أنه لم يكن يعلم شيئاً عن التنظيم الخاص أو الجهاز السري وما يدور فيه، وعندما افتضح أمر التنظيم السري بعد «حادثة السيارة الجيب» عام 1948، استاء الشيخ الباقوري كثيراً من البنا، لأنه لم يبلغه بأي شيء عن هذا التنظيم، فالمرشد الأول لم يكن يسمح لأحد غيره الاطلاع على التنظيم الخاص.
ولكن بعد عودة «حزب الوفد» إلى الحكم، ألغى مجلس الوزراء مواد قانون الأحكام العرفية الذي كان سارياً منذ حرب فلسطين، لذلك استأنفت الجماعة مزاولة نشاطها في فبراير 1950، كما أن هناك أسبابا ودوافع ومصالح سعت لإعادة تواجد الإخوان، فلم يكن الغرب سيقبل بنهاية التنظيم طالما المصالح لا تزال قائمة، ولأن القصر الملكي أيضاً كان يخشى من جماهيرية الوفد، فتم تدبير مرشح من خارج جماعة الإخوان تماما تنطبق عليه الأوصاف المطلوبة، وهو القاضي حسن الهضيبي، ولم تكن له علاقات أو أي نفوذ وصلات داخل التنظيم، وتم تنصيبه مرشداً للجماعة مطلع أكتوبر 1950 قبل انعقاد مجلس شورى الجماعة في 18 أكتوبر 1951، الذي أقر لاحقاً بانتخابه رسميا، وقيل أيضا إن البنا قد أوصى بعض المقربين في الجماعة بأن يخلفه صديقه الهضيبي، قائلاً: «لو حدث لي شيء واختلفتم إلى من يكون مرشدًا بعدي فاذهبوا إلى المستشار حسن الهضيبي فأنا أرشحه ليكون مرشداً بعدي».
وبعد فترة وجيزة من تولي الهضيبي المهمة، قام بغربلة التنظيم السري لإعادة تهيئته، وقام بالتواصل سريا مع الإنجليز والأمريكان للتآمر ضد مجلس الثورة، إذ عقد المرشد العام سلسلة من الاجتماعات السرية مع الوزير المفوض لدى السفارة البريطانية في القاهرة «تريفور إيفانز»، والتقى أعضاء من الإخوان مع ممثلي السفارة الأمريكية السيد بورديت وجرينجان، وبدأت تلك الاتصالات في أوائل الخمسينات، وخلال مرحلة سقوط الملكية وقيام مجلس الثورة، وعرض الهضيبي وجماعته على الأمريكان والإنجليز تقديم العديد من التنازلات والامتيازات فيما يخص قناة السويس في حال وصولهم إلى السلطة، وهو ما يدل على انتهازية الجماعة وفقدانها لأدنى قيم الوطنية، فعلى الرغم من أن ثورة 1952 أتت بحكومة تعادي الصهيونية، وعلى الرغم من جلاء الإنجليز، ومع ذلك استمرت الجماعة على نهجها السياسي وأبقت على تنظيمها السري، فماذا يعني ذلك سوى أن لديهم أطماعا في الوصول إلى السلطة حتى لو كان على حساب خيانة الوطن والحفاظ على مصالح الأعداء.
في تلك الفترة الشائكة، انشق الكثير من المعتدلين عن التنظيم، وكان من بينهم الشيخ محمد الغزالي وهو من الرعيل الأول لجيل الإخوان، واتهم حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان بالماسونية، إذ قال الغزالي عن تولى الهضيبي لمنصب المرشد، في الطبعة الثانية من كتابه (من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي): «استقدمت الجماعة رجلا غريبا عنها ليتولى قيادتها وأكاد أوقن بأن من وراء هذا الاستقدام أصابع هيئات سرية عالمية وقد سمعنا كلاما كثيرا عن انتساب البعض للماسون بينهم الأستاذ حسن الهضيبي نفسه لجماعة الإخوان، ولكن لا أعرف بالضبط كيف استطاعت هذه الهيئات الكافرة بالإسلام أن تخنق جماعة كبيرة على هذا النحو، وربما يكشف المستقبل أسرار هذه المأساة»، وأضاف: «إن الذين يحسبون أنفسهم جماعةَ المسلمين يرون مخالفة الأستاذ حسن الهضيبي ضرباً من مخالفة الله ورسوله، وطريقاً ممهدة إلى النار، وبئس القرار، وقد كنت أسير مع زميلي الأستاذ سيد سابق قريباً من شعبة المنيَل، فمر بنا اثنان من أولئك الشّبان المفتونين، وأَبيا إلاَّ إسماعنا رأيهم فينا، وهو أننا من أهل جهنم».
وينتقد الغزالي الفهم الخاطئ للإسلام من قبل البعض، فيقول عن الإخوان: «إنني تذكرت بعد أيام هذا العداء المر، والأوامر التي أوحت به، فعزَ علي أن يلعب بالإسلام وأبنائه بهذه الطريقة السمجة، وأن تتجدَّد سياسة الخوارج مرة أخرى، فيلعن أهل الإيمان ويترك أهل الطغيان، فمن المضحك أو المبكي أن يخطب الجمعة عقب فصلنا من المركز العام (للإخوان) من يؤكد أن الولاء للقيادة يكفر السيئات، وأن الخروج عن الجماعة يمحق الفضائل، وأن الذين نابذوا القيادة عادوا إلى الجاهلية الأولى، لأنهم خلعوا البيعة… ورئي الدكتور محمد يوسف موسى -أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة- يخلُص بالخطيب جانباً، ليقول له: أي إسلام هذا؟ ومن من علماء الأولين والآخرين أفتى بهذا اللغو؟ وكيف تلبسون الدين هذا الزي المنكر».
ويؤكد المؤرخ الإخواني وعضو التنظيم السري عادل كمال في كتابه «النقط فوق الحروف» على الاتهامات الصريحة بماسونية عدد من قيادات الجماعة، إذ قال في الصفحة (49) من الكتاب، إنه بعد مقتل حسن البنا وخلال اجتماع الهيئة التأسيسية لتحديد المرشد الجديد، طلب عبدالرحمن الساعاتي شقيق حسن البنا والمراقب لعام لجماعة لإخوان ضرورة الاحتفاظ بلقب «البنا» على رأس جماعة الإخوان، وأكد أنه سيغير اسمه في حالة تعيينه مرشدا عاما من عبدالرحمن الساعاتي إلى «عبدالرحمن البنا»، وبرر ذلك برغبته في أن يبقى اسم البنا رمزا للجماعة، إلا أن الظروف فرضت عليهم تعيين حسن الهضيبي مرشدا عاما للإخوان، فظل محتفظا باسمه.
سيد قطب، هو منظر جماعة الإخوان المسلمين وأحد أبرز أعضائها، ومر بتقلبات عجيبة في مراحل حياته الفكرية، ففي بداياته كان متأثراً بمدرسة عباس محمود العقاد الفكرية، ثم مر بمرحلة من الإلحاد والماسونية، إلى أن استقر على أن يكون المنظِّر الدموي لجماعة الإخوان.
وحين ابتعث قطب إلى الولايات المتحدة لدراسة التربية وأصول المناهج عام 1948، لم تكن له أدنى علاقة بالكتابة الدينية في ذلك الوقت، إذ كان مهتما بالنواحي الأدبية والفنية، وكان متحررا لدرجة أنه دعا في مقال له بعنوان «الشواطئ الميتة» بالأهرام في 27 مايو 1934 إلى إنشاء مستعمرة للعراة في مصر، وقال فيه «إن الذين يتصورون العري على الشاطئ في صورته البشعة الحيوانية المختلفة واهمون، وهم لم يذهبوا إلى الشاطئ، ولكن قرروا أو رأوا الصور منشورة في الصحف، أو ذهبوا وفي نيتهم أن ينتقدوا، فعاشوا في الصورة الخيالية المشوهة في أذهانهم، ولم يعيشوا على الشاطئ والأمواج»، مضيفاً بأن ليس في الجسم العاري على البلاج فتنة لمن يشاهده ويراه في متناول عينه كل لحظة، وفتن الأجسام هناك، وهي المنتشرة في الفستان، أما «المايوه» فهو لا يجذب ولا يثير، وإن أثار شيئا فهو الإعجاب الفني البعيد بقدر ما يستطاع عن النظرة المخوفة المرهوبة، وختم قطب مقاله، قائلاً: «اطلقوا الشواطئ عارية لاعبة، أيها المصلحون الغيورون على الأخلاق، فذلك خير ضمان لتهدئة الشهوات الجامحة، وخير ضمان للأخلاق».
وفي 23 أبريل 1943، نشر سيد قطب مقالاً عن فكره الملهم بالماسونية في صحيفة التاج المصري وهي صحيفة «ماسونية» ومخصصة للمنتسبين للمحفل الوطني الماسوني والشخصيات الماسونية، وكان عنوان المقال: «لماذا صرت ماسونياً؟»، وقال قطب في مقاله: «لقد صرت ماسونياً، لأنني كنت ماسونياً، ولكن في حاجة إلى صقل وتهذيب، فاخترت هذا الطريق السوي، لأترك ليد البناية الحرة مهمة التهذيب والصقل، فنعمت اليد ونعم البناؤون الأحرار».
وأضاف قطب: «عرفت أن الماسونية ليست مبدأ أو مذهبا يعتنق، وإنما هي الرجولة والإنسانية التي تدفع بالإنسان إلى عمل الخير دون وازع إلا وازع من وجدانه وضميره، هي روح عالية نبيلة تسمو بالإنسان عن الصغائر وتنزهه عن الترهات والسفاسف، هي المثل الأعلى لكل من ينشد كمالًا أو يبغي رفعة ومجدا، هي الفضيلة التي تنطوي على أسمى المعاني وأشرف المقاصد وأنبلها، هي مبدأ الكمال ومنتهاه، الماسونية هي الوحدة التي تجمع بين مختلف الأديان ولا تعرف للتحزب معنى، ولن تجد لكلمة التعصب مكانا في شرعها، هي التعويذة السحرية التي تؤلف بين القلوب جميعها في أقصى الشرق أو أدنى الغرب، هي المكان الوحيد الذي يستطيع فيه الجميع، الصغير منهم والكبير أن يتصافحوا مصافحة الأخ لأخيه، ويجلسوا جنبا إلى جنب، دون نظر إلى فارق اجتماعي أو مركز أدبي، ولا غرو في ذلك، إذ إن دعائمها وأسسها مشيدة على الحرية والإخاء والمساواة، فما أعظمها دعائم وما أقواها من أسس وما أبذلها من مبادئ».
وشكل ابتعاثه إلى الولايات المتحدة نقطة تحول خطيرة في حياته، إذ كانت فرصة ليتعرف على جماعة الإخوان المسلمين ومؤسسها حسن البنا هناك، إذ عكف على الدراسات الاجتماعية والقرآنية ووجد فيها نفسه بسبب استيائه من الغزو الفكري الأوروبي، كما رفض التصور الإسلامي عن الألوهية والإنسان والكون والحياة الذي كتبه ابن سينا والفارابي وابن رشد وغيرهم، لأنه رأى أن فلسفاتهم ما هي إلا ظلال للفلسفة الإغريقية، وعاد بعدها إلى مصر ليتحول في كتاباته من الأدب والفن إلى الكتابة في الدين، بل والجانب شديد التطرف في الدين فكان في ذهن قطب مشروع إسلامي يرى فيه ضرورة وجود طليعة إسلامية تقود البشرية، ومن هنا وجد همزة الوصل بينه وبين الإخوان المسلمين فكان كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» الذي قدمه للجماعة في الإهداء قائلاً: «إلى الفتية الذين ألمحهم في خيالي قادمين يردون هذا الدين جديدا كما بدأ.. يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون»، وانعكس تطرفه الديني على أشده في كتابيه اللذين صدرا بعد عودته لمصر، وهما «معالم في الطريق» و«في ظلال القرآن».
ويؤكد عدد من قيادات جماعة الإخوان المسلمين، فساد عقيدة سيد قطب بعد أن عاد من أمريكا وأصبح منظر الجماعة وأمير التكفير، ووفقاً لما أوضحوه في كتبهم، لم يكن سيد قطب يصلي صلاة الجمعة، زاعما بأنها سقطت بسقوط الخلافة، وذكر على العشماوي، آخر قائد للتنظيم السري في الجماعة، في كتابه الشهير (التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين)، «كان سيد قطب لا يصلي الجمعة.. وقد علمت ذلك مصادفة حين ذهبت إليه دون موعد.. وكانت بيننا مناقشة ومشادة حامية وأردت أن أهدئ الموقف، فقلت له هيا إلى صلاة الجمعة.. وقد فوجئت حين قال لي «إن صلاة الجمعة تسقط إذا سقطت الخلافة ولا جمعة بلا خلافة» وكان هذا الرأي غريبا عليّ ولكني قبلت على اعتبار أنه أعلم مني. وقال الشيخ محمد الغزالي في كتابه «من معالم الحق»، إن سيد قطب منحرف عن طريقة حسن البنا، وإنه بعد مقتل المرشد الأول، وضعت الماسونية زعماء لحزب الإخوان المسلمين، وقالت لهم ادخلوا فيهم لتفسدوهم، وكان منهم «سيد قطب».
وقد اعترف سيد قطب بعد ذلك في السجن «أن زيارته لأمريكا كانت وليدة تخطيط أمريكي، ولم يكن يدري أنها جزء من رهان أمريكي، أي أنها نتيجة تخطيط استخباراتي لتجنيده»، كما اعترف أيضاً بأنه وقع تحت إغراء الأوساط الأمريكية بكل الوسائل، وإن لم يسقط في شباكها.
المزيد من الموضوعات
كلمة للتاريخ يوما ما سيجئ الحساب…
بالبنط العريض…
بريهان العبودى تكتب.. الغدر ونكران المعروف