دكتور مصطفى زلوم يكتب هل حياتك رائعة حقاً..؟!
كتب/مصطفى زلوم
وسيط اليوم
23/5/2023
مقدمة:
في عام 1939م شرع الكاتب الأمريكي المغمور آنذاك «فليب فان داروين ستيرن» في كتابة قصة قصيرة. ثم أراد نشرها لكن معظم دور النشر والطباعة بالولايات رفضت تحمل مسؤولية توزيع قصة بهذه الركاكة. قد تكون طبول الحرب العالمية الثانية التي كانت تقرع آذان العالم هي السبب، لا سيما والقصة كلاسيكية رومانسية فلسفية في منتهى العمق، والعالم يتأهب للحرب، ولا مجال لديه إلا لشحن الأعصاب بالشعارات الرنانة والخطب الدعائية، ثم البكاء آخر الليل وسط قناني الخمر وكؤوس النسيان.
لم ييأس “فليب” من هذا التجاهل والصد، وقام بطباعتها على نفقته الخاصة على هيئة بطاقات معايدة، ثم قام بتوزيعها على أصدقائه ومعارفه في عيد الميلاد، فظلت القصة تقفز من كف لكف، ومن بيت لبيت، ومن مكتب لمنضدة، ومن قارئ لسلة مهملات حتى وقعت في يد منتج مغوار، ومخرج أيضا.. لكنه لا يقل عزيمة عن الكاتب “فان” الدؤوب! لقد زحفت القصة حتى وصلت ليد المخرج الأمريكي«فرانك كابرا». والذي قرر أن يحولها لفيلم سينمائي!
في عام 1945م يقوم المخرج “كابرا” بتقديم القصة على الشاشة الفضية مع تغيير اسمها من (الهدية الأعظم) إلى فيلم (إنها حياة رائعة). ليسقط الفيلم جماهيرياً، وليلحق بالقصة الأصلية، وليحجز له مقعداً في صفوف الفاشلين.
ومع بداية سبعينات القرن الماضي تقوم إحدى المحطات التلفزيونية الأمريكية الشهيرة بعرض الفيلم ليلة عيد الميلاد، ليقفز الفيلم من عالم المجهول فجأة، وليصل بسلام إلى رقم (16) من قائمة أفضل (100) فيلم في تاريخ السينما العالمية، ويستقر بسلام في مكان بارز بمكتبة الكونغرس الأمريكي كواحد من أكثر الأعمال الدرامية تأثيراً، ويتوج العالم أخيراً الكاتب “فليب فان” والمخرج “فرانك كابرا” بما يليق بهما كعبقريين قلما قابلت مثلهما. وقد لا تقابل!
الهدية الأعظم:
تساءلت في السابق محدثاً القارئ اللبيب: ماذا لو: أتيحت لك الفرصة أن تمحو نفسك من سجلات الحياة بالكامل. بمعنى أنك تصبح (لا شيء)، لم تولد ولم تحيا؟ وجاءت الإجابات متباينة ممن فهموا مقصدي، وجاءت مستنكرة أحيانا ممن لم يفهموا ماذا أقصد على وجه التحديد، الآن أوضح ماذا كنت أقصد بهذا السؤال المباغت.
في ليلة ظلماء من ليالي الشتاء القارص، يقرر البطل “جورج” التخلص من حياته! فيهرب بسيارته البسيطة ناحية الطريق السريع، ويظل يجري بها على غير هدى، حتى يصطدم بشجرة عجوز تقف على جانب الطريق قبالة جسر “كوبري” يطل على نهر، فيجد جورج فرصته، وينزل من السيارة متجها إلى الجسر ليرمي نفسه في النهر ويموت! وبعدما يعتلي الجسر يجد عجباً. لقد سبقه آخرٌ للنهر ورمى نفسه. فيقرر جورج إنقاذ المنتحر الآخر. بعدما نسي من هول المنظر أنه هو ذاته جاء لينتحر أيضاً. وينقذ جورج الرجل الآخر، ويحمله لكوخ مهجور، بعدما ابتلت الثياب وانقض البرد. وعلى دفء النار التي أشعلانها يسأله الرجل المجهول سؤالا غريباً: لماذا قررت الانتحار يا جورج؟! كان السؤال غريباً. فجورج لا يعرف هذا الرجل، بيد أنه يعرفه، بل ويعرف ما كان ينتوي فعله! وهنا يبدأ الرجل المجهول في تعريفه بنفسه. أنا ملاك من السماء، اسمي “كلارينس”.
ملاك من الدرجة الثانية، لم استطع الحصول على جناحين حتى الآن. وكان الجناحان مشروطان بشرط. وهو أن أعمل عملا عظيماً، وأحول حياة أحد التعساء إلى حياة هانئة.. وهنا يعاود السؤال: لماذا تريد التخلص من حياتك؟
يستريح جورج للملاك. ويبدأ مصارحته. أنا تعيس جداً، ساعدت الجميع، لكني سقطت الآن ولا أجد من يساعدني، إنني مهدد بالسجن في أي وقت! ويسترجع البطل جورج شريط ذكرياته. لقد أنقذت أخي الوحيد من الغرق ونحن صغارا. وفضلته على نفسي، فسمحت له بالسفر وظللت أنا مع والدي، فتطوع في الجيش وأصبح محاربا، ليعود بزوجة وأولاد بعدما أصبحت له حياته، لقد أنقذت صيدليا عجوزا جارنا من السجن، بعدما نسي في خضم أحزانه على موت قريب له، فوضع سما لطفل بدل الدواء، ولولا دخولي في اللحظة الأخيرة لمات الطفل وسجن الصيدلي، ومات أبي وتوليت إدارة الشركة العقارية بدلا منه بمعاونة عمي السكير. وحميت بلدتي من جشع الغني الطامع “بوتر”، والذي كان يريد شراء أراضي البلدة وتحويلها لمراقص وحانات، لكنني قدمت العون لأهالي البلد، فقمت بالاقتراض من البنك، وتعمير البلد. حتى عندما أعطيت عمي أموال القرض ليرجعها للبنك أضاعها وهو يتحدث مع الطماع بوتر. والآن البنك سيحجز على الشركة وادخل أنا وعمي السجن. تزوجت من فتاة فقيرة كنت أحبها، وانجبت أولاداً. وتحملت العيشة المتقشفة في بيت يحفه الفقر من كل مكان. رضيت إلى حد ما. والآن لا فائدة من هذه الحياة، إنني أريد الموت، لقد أغلظت لأمي الحديث، وأغضبت زوجتي، وقررت التخلص من حياتي.
ليتني لم أولد:
وفي خضم حديث جورج للملاك، يلقي البطل بجملة هي محور القصة بالكامل، فيقول: “ليتني لم أولد من الاساس، ليتني لم أرَ هذه الحياة التعيسة”. وهنا يباغته الملاك “كلارينس” بعرض عجيب. ماذا لو: أتحت لك فرصة فريدة من نوعها؟ ماذا لو محوت كل ذكرى لك على هذا الكوكب؟ فكأنك لم تولد! وكأن أحداً ممن عاشرتهم رأك من قبل!! هل توافق؟! فأجابه جورج على الفور: (نعم) بلا تفكير.. نعم أوافق جداً. فقال له الملاك: اذهب يا جورج للحياة من جديد. كأنك لم تخلق إلا الآن! وليكن لقاؤنا لاحقاً.
أين حياتي التعيسة؟ أريد حياتي:
يخرج جورج من الكوخ بعدما تلاشى الملاك من أمامه. فلا يجد سيارته المحطمة. بينما الشجرة العجوز تقف في شموخ. يركض إلى بلدته فيجد أن معظمها قد تحول للحانات ومراقص، وعلى أول البلدة لافتة ضخمة مكتوب عليها (منتجع بوتر السياحي). بوتر الغني الجشع، ثم يسير نحو البار الذي اعتاد ارتياده مساءً، فيجد الناس هناك، جيرانه ومعارفه وأهل بلدته، لكن أحدا لا يعرفه، وبينما يحاول تذكيرهم باسمه الذي لم يسمعوا عنه من قبل، يدخل الصيدلي العجوز جاره، فيهيج القوم ضده، ويحاولون ضربه، فيدافع عنه جورج، ويسألهم لماذا تريدون الاعتداء عليه؟ فيقولون.. إنه حثالة، لقد تسبب في موت طفل بوضع السم له في الدواء، وقد خرج للتو من السجن، بعدما قضى فيه عشرين عاما، ويتذكر جورج أنه في حياته الأولى أنقذه من ذلك الجرم! فيهرول إلى بيت أمه، فتفتح له الباب وهي تنكره.. من أنت؟ فيقول لها أنا جورج ابنك الكبير. فتنهره وتطرده، بعدما تصيح فيه: ليس عندي أولاد، لقد كان عندي ولد واحد ومات غريقا منذ فترة طويلة، اذهب أيها الاحمق.
يزحف جورج بقدمين متهالكين نحو بيته، فيجد أن المكان قد أصبح مقابر. ويسأل عن زوجته، فيدلوه عن مكانها، إنها فتاة “عانس” لم تتزوج من فقر الخُطاب، وتعمل بائعة في إحدى المكتبات الحقيرة. فيقدم لها نفسه فلا تعرفه! حتى بطولات أخيه في الحرب تلاشت، بل وانقلب النصر لهزمية منكرة. وهنا يصرخ جورج من أعماق قلبه.. أين حياتي؟ أين حياتي بحلوها ومرها! أين حياتي البائسة وذكرياتي فيها. ولو كانت أتعس الحيوات!!
إنها حياة رائعة:
ويفيق جورج من صراخه داخل الكوخ، بينما الملاك ينظر إليه مبتسما، فيقول له: ماذا تريد يا جورج؟ فيجيبه بعفوية: (أريد حياتي الرائعة)! فيخبره الملاك كلارينس أنه جاء من السماء خصيصاً، بعدما علا الضجيج في بلدته بالدعاء له، فتعجب أهل السماء من محبة الناس لذلك الآدمي، وارسلوه في هذه المهمة لمساعدته، بل ولمساعدة نفسه في الحصول على الجناحين، إن أهل بلدتك يبكون من لحظة أن سمعوا بما حل بك، ورفعوا أيديهم ليلة رأس السنة بالدعاء لك، وتضاعف ألمهم بعدما علموا أنك خرجت بالسيارة مهموماً، ولا يدرون ماذا قد وقع لك. اذهب يا جورج لحياتك الرائعة، فإن لم تكن رائعة في ذاتها، فإنها بالتأكيد رائعة في تفاصيلها. هكذا خاطبه الملاك.
يرجع جورج ليجد أن زوجته قد دارت على بيوت البلدة بيتا بيتا تخبرهم بما حل بزوجها، وأن البنك سيحجز على الشركة، وسيدخل السجن لا محالة، فيقوم الأهل بجمع المال له! يعود جورج ليجد (جوالا) من المال بانتظاره! والناس جميعا يلتفون حوله فرحين، فيدفع القرض، ويحيا في أمان.
حياتك رائعة.. فإن لم تكن رائعة في ذاتها، فإن تفاصيلها لا بد رائعة. فكم مرة قدمت نصحاً لشخص؟ وامتن بهذه النصيحة! كم مرة كنت سببا في حياة شخص؟ وهذا الشخص ماذا فعل بعد ذلك؟ أفلا يكون هو ذاته كان سببا في حياة آخرين. ولولا أنت ما كان هو. ولولا هو ما كانوا هم، أنت “ترس” صغير في آلة ضخمة، قليل في ذاتك، عظيم جدا مع المجموع! “فلا تحقرن من المعروف شيئا” كما قال النبي صلى الله عليه وسلم! فقد يكون معروفا تحتقر صنيعه، يترتب عليه الكثير والكثير من الأفعال الصغيرة أيضاً. لكن في المجموع ستجد أنَّ العملَ عظيمٌ جدا، لم تكن لتستطيع فعله كله، لكنك لو أديت ما عليك من فعل صغير، فسيصبح المجموع في النهاية.. حياة رائعة جدا.
المزيد من الموضوعات
ندوة أدبية وثقافية بحزب الوفد بطنطا…
اللواء محمد البربري رئيس جهاز الحماية المدنية سابقا و أحد أبرز كوادر حماة الوطن بالغربية في حوار مع وسيط اليوم …
كلمة للتاريخ يوما ما سيجئ الحساب…