وسيط اليوم

جريدة الكترونية عربية

اسامة حراكي يكتب: زمن التقييم

اصبحنا في زمن الناس يقيمون بعضهم بما يلبسون وما يقتنون، بالعربية بالساعة بالرصيد في البنك، وقيمة الشخص ترتفع بمقدار ما يملك، فأصبحت الحياة مجرد مظهر، مع أنه بالكفاح والموهبة والمثابرة، يستطيع المكافح أن يجد له مكاناً تحت الشمس، ولكن بعض المكافحين قد تغرب عنهم الشمس قبل أن يتمتعوا بأشعة النجاح، فقد مضى عصر أبي تمام الذي كان يملىء الماء في جرة ليبيعه، وأبي العتاهية الذي كان يبيع الفخار، والجاحظ الذي كان يبيع الخبز والاسماك كي يعيش، مثل هؤلاء وغيرهم قضوا سنوات في تحسين أعمالهم، ولم يشغلهم المظهر ومتطلباته، ولا شك بأن الأناقة ضرورية، ولكن سمة المبالغة في كل شيء هي التي تطغى في عصرنا، والتقييم وحسن الاستقبال والتقدير يخضع لحجم ومقدار هذه المبالغات.

اصبحنا اليوم في مجتمع استهلاكي مريض يقيس البشر بمدى ما يملكون من مال وما يقتنون من نفائس، لا بقيمهم الأخلاقية والفكرية والمعنوية، ولا بما تحتويه عقولهم وقلوبهم من أفكار ومشاعر، ولا حتى بطريقة سلوكهم وأسلوب تعاملهم مع الآخرين، ولا ألوم الأغنياء على حقهم المشروع في عيش نمط الحياة الذي يريدونه، ولست ممن يرون ضرورة اقتصار الكماليات على طبقة الأغنياء والميسورين، فلكل إنسان الحق في تطوير ظروف حياته.

منذ أيام كنت وزميل لي بالقرب من احدى الفنادق الكبرى المطلة على النيل، حيث كنا هناك لمتابعة بعض الاعمال والتي فرضت وجودنا منذ الصباح الباكر، وبعد انتهاءنا كان قد حل بنا الجوع والتعب والارهاق، فقررنا الصعود للطابق الأخير في الفندق، حيث يوجد مطعم فاخر ومطل على اطلالة جميلة، وحين صعدنا ودخلنا قابلنا موظفا الاستقبال، فاعتذر الأول عن عدم وجود مكان لشخصين وأن الحجز يتم قبل الموعد بيوم، والثاني قال لا يسمح بالدخول إلا بالبدل والأحذية الجلدية، فشعرت من نظراتهم أن هناك خطأ ما في مظهرنا فنظرة لحذائي “وكتشي” زميلي والبناطيل الجينز التي نرتديها والقمصان العادية، وفهمت ما لم يقولاه، فغادرنا المطعم وأكلنا وجبة سريعة من مكان آخر وانصرفنا.

في اليوم الثاني دعوت زميلي إلى نفس المطعم وطلبت منه ارتداء حذائه وأفضل بدلة عنده، وفعلت أنا كذلك بعد أن وضعت في اصبعي خاتم جميل في نفس اليد التي فيها ساعتي الثمينة ورششنا عطر غالي وذهبنا من غير حجز، فاستقبلانا نفس الموظفان والابتسامات تشطر وجههما، وأدخلانا من دون موعد حجز، وبادرا بالاعتذار عن سوء الفهم الذي حصل بالأمس، لقد تصورا أن الملابس والمقتنيات والمظهر هم الذين سيحددون حجم البقشيش وليس من يرتديهم، لذلك لم ندفع جنيه واحد زيادة على الفاتورة، على الرغم من الخدمة الخيالية التي حظينا بها.

أنا لا أدين الموظفان كأشخاص على فعلتهم، فهم مثال لكثير من ضحايا المظاهر، نعم ضحايا لأنهم لو كانوا بكامل قواهم النفسية والفكرية، لما وقعوا تحت سطوة المظهر.

وبعد أن خرجنا من الفندق اتجهنا ناحية موقف السيارات لنأخذ عربيتنا، فوجدت حارس الموقف عم حسن، ذلك العجوز الذي يغمس العيش الفينو بكوب شاي باللبن، يبتسم للمارين وينظر للنيل وهو يستمع لأغاني كوكب الشرق من راديو الجيب الصغير، فسألت صديقي: هل أعجبك طعم الكافيار الروسي والستيك الفرنسي مع النبيذ الفاخر، هل فعلاً كانت جلستنا وغداءنا أجمل من جلسة وغداء عم حسن>

Follow by Email
Instagram
Telegram
WhatsApp
× اتصل الآن