لحظة نور
كتب محمد الشرقاوي
وسيط اليوم
13/3/2023
أمواج متلاحقة من البشر تمر في الاتجاهين ، الشارع – رغم اتساع مساحته العرضية – لم يعد يتسع لهذا الطوفان المتواصل خاصة في تلك الساعات الوسطى من النهار ، فالسيدات يقمن بشراء احتياجات منازلهن أثناء عودتهن من أعمالهن ، حتى اللائي لا يعملن تعودن على التسوق خلال نفس الساعات ، أما الموظفون والطلاب فذلك وقت عودتهم ، المحلات على الجانبين تمادت بقسوة في التعدي على ممر المشاة حتى ضاق تماما شريان الطريق وأصبح المرور يشبه عبور الصراط ، أما الباعة الجائلون فلا يتوقفون لحظة ولا تنقطع أصواتهم عن النداء المتواصل للترويج لبضاعتهم . فبعض المارة يسألونهم عن الأسعار والبعض يقومون بالشراء الفعلي في حين تطاردهم أصوات أصحاب المحلات مطالبة إياهم بالانصراف لمنع التكدس وتعطيل المارة ، لكن هيهات .
على إحدى النواصي الهامة التى تصب في هذا الشارع المشهود ، يجلس ساطور مع ثلاثة أصدقاء ، هكذا اعتادوا على تسميته وهكذا عرفه أهل الحي ، أمامهم منضدة عليها أربعة أكواب من الشاي فرغت جميعها ما عدا الكوب الرابع الذي لا يزال في يد ساطور ، بجوار المنضدة نرجيلة كبيرة تحمل كمية ضخمة من الفحم المشتعل ، يدور الحديث عن مشاجرة الأمس التي وقعت بين شارعهم والشارع المجاور ، الجميع يبدون رأيهم على استحياء في انتظار قرار القائد ، تتجه أنظار المارة نحوهم ، تساؤلات تطل من العيون : ماذا يخططون ؟ ومتى ينفذون ؟ وما الذي تحمله الساعات القادمة ؟ ما زال القائد سابحا في تفكيره ، يسمع أصدقاءه ويلاحظ نظرات العابرين لكن بلا تعليق ، تلوح من بعيد سيارة يبدو عليها التوجه لهذا الشارع ، يشير أحد أعوان ساطور بضرورة أن يسلك السائق شارعا آخر احتراما وتقديرا لجلوسهم ، يهمس السائق برهة ثم يلقي السلام والترحيب والدعاء لساطور وحلفائه ، ثم يتواصل الحديث .
يعود عامل المقهى ليسترد الأكواب الفارغة ويتلقى الأوامر بالمشروبات القادمة وكذلك يقوم بتغيير حجر النرجيلة دون أن يشير إلى الحساب ، يمر من سكان الشارع أشخاص معروفون بالعلم والحكمة والوقار ، يلقون السلام ، يسارعون لمصافحة الجالسين فردا فردا وقصائد المديح تتسابق إلى أسماع هذا الفريق المتجانس الذي لا يعير أدنى اهتمام لمن صافحهم ، يتفل ساطور بعنف خلف ظهورهم ذاكرا بين أصدقائه خسة وحقارة هؤلاء البشر ، يتعجب أصدقاؤه لكن دون سؤال ، تدور بينهم النظرات لعلهم يجدون تفسيرا لما يسمعون من زعيمهم ، لكن دون جدوى ، يضحك ساطور قائلا ، ستفهمون كل شيئ في وقته المناسب ، ثم يعود السؤال المهم : ماذا سنفعل بخصوص مشاجرة الأمس ؟ لكن الجميع يتفقون على ضرورة الرد بقوة دون تأخير ، فالأمر متعلق بكرامتهم وهيبتهم ليس في الشارع فقط بل في الحي بأكمله ، وإلا وجب عليهم مغادرة المدينة في الحال .
تتجه الأنظار نحو ساطور لمعرفة ما وصلت إليه أفكاره وخططه ، يبادره أحدهم بالسؤال : ماذا قررت يا زعيم ؟ يترك ساطور خرطوم النرجيلة ، يستعد للحديث ، الأسماع تتشوق وتتأهب ، يقول ساطور : كنت في مقتبل شبابي في بداية المرحلة الإعدادية ، أحترم الجميع وأرى الكبار قدوة لي بعد وفاة والدي ، إلى أن همس لي صديق بضرورة التدخين ، فعلت على استحياء متوقعا عتابا أو نصحا ممن كنت أحبهم ، فلم أر شيئا من ذلك ، تشاجرت في إحدى المرات وقلت ألفاظا قبيحة جدا ولم أسمع نهيا من أحد ، تماديت ، تركت دراستي ، زاد ذلك من جرأتي فرأيت الناس بلا قيمة ، بلا وزن ، أصبح المجتمع في نظري ميتا ، وكلما تشاجرت احترمني الجميع وتقربوا لي وأظهروا لي الحب والتقدير ، الآن أنا أحتقر هؤلاء بشدة ، لقد كان بإمكانهم أن يقوموني كي أصبح طبيبا أو مهندسا أو محاسبا أو غير ذلك من المهن المفيدة ، لقد كنت متفوقا بل كنت من الاوائل ، لا بارك الله لهم ، الآن أعلن توبتي ، وعلى من يحبني بصدق أن يتراجع عن ذلك الطريق المهلك ، يبدو الوجوم على الوجوه ، لكن سرعان ما تعود الابتسامة لتعلن الموافقة .
المزيد من الموضوعات
رحلة الإبحار في الأعماق…
نور عيني .! بقلم .. نيڤين إبراهيم
نقف فوق الأطلال وأقدامنا بين الركام وننثر كلمات تخرج من عمق القلب بالأحزان وبغصه في الحلق بحرقان لكي نوصل ما يشعر به الطفل الفلسطيني…