وسيط اليوم

جريدة الكترونية عربية

عود ثقاب يحترق…

عود ثقاب يحترق…

بقلم / طارق رضوان جمعة

وسيط اليوم

27/72023

البعض ربما يرى أنه لا ضرر من أن يحترق عود ثقاب. فعود الثقاب لا قيمة له حسب زعمهم، لكن ماذا لو كنت أنا عود الثقاب؟ فحالى هو حال أغلب أرباب القلم. يبدو أنتى لست الوحيد الذى يعانى ويجاهد من أجل كتابة مقال. فتارة أجد الكمبيوتر الوحيد بالمنزل بمعنى انه متاح للجميع محترق أو مخطوف.. حقا لقد عانى هذا الكمبيوتر الكثير بسبب كتاباتى. وكثيرا ما وجدت أسلاك النت مقطوعة. وأحيانا تصلنى رسائل تهديد ووعيد وسط غموض مرعب لا أدرى عنه شيئا. كل هذا وأكثر كانت محاولات لا تنم إلا عن غيرة عمياء، وصارت لى الآن مواقف مضحكة مبكية، فماذا تفعل لو أنك مكانى؟

كم أسعدني قراءة ما كتبه العراب د. احمد خالد توفيق عن شكوك الزوجة وتأففها من الكتابة وكأن سطورى زوجات أخريات تنافسها، أو ربما لأنها تظن أنى احادث نساء أخريات فاغازلهن او يغازلوننى حين انفرد بنفسى بحثا عما يشغل بالى وأريد الكتابة عنه. فأنا مثلى مثل باقى الأدباء والشعراء دائما موضع شك. هذا الشعور ازعجنى كثيرا. وكان حزنى يزيد حين أقرأ عن زوجات أدباء يقدرون دور ازواجهن وتميزهم الأدبى، فيوفروا لهم يد العون. أعلم انهن قلة قليلة، لكنى كثيرا ما تسألت لماذا لا تكون زوجتى مثلهن؟! وبين شكوكها وبين شكواها من أنى أتركها وحيدة يخرج مقال جديد وكأنها ولادة متعثرة فى ليلة قاتمة.

فى مقال الدكتور أحمد خالد توفيق ” أن تكتب في البيت – بص وطل” ترى وصفا دقيقا لحياة أديب ومفكر يقدره الكثير من المثقفين والمثقفات، بينما يسخر موهبته أقرب الناس منه… زوجته وأولاده. فهم يروا أنه يضيع وقته ويفسد بصره فى شىء تافه لا يستحق العناء، فكثيرا ما رددوا ذلك على مسامعى. لكن الكتابة أمر يشبه الإدمان لا يمكننى التوقف عنه، ولا يهنأ لى بال حتى ارى افكارى امامى ملموسة ولامعة. كثيرا ما قيل لى مثلما قيل لمن سبقونى من أرباب القلم أن الكتابة التى لا تدر علينا المال هى أمر تافه وان الكتابة والقراءة تجربة فاشلة لا يجب التمادى فى تبنيها أو تكرارها.

دعونا نستعرض الأمر من وجهة نظر العراب، الذى أراد أن يكتب على قبره… جعل الشباب يقرأون، فيقول فى مقاله : ” أنا أكتب في البيت…
الأمر يعود لمشكلة ضميرية، تتعلق بترك زوجتي وحدها مع وحشين صغيرين مفترسين لا يكفّان عن العراك والشكوى والطلب. هذه قسوة لا توصف.. كل مؤلف أعرفه له مكان منعزل هادئ يكتب فيه، ومنهم من لجأ إلى المقابر مثل عمنا العبقري خيري شلبي. لكني ما زلت أجد نوعًا من التحذلق والادّعاء في أن أترك البيت كل صباح وأذهب للكتابة ثم أعود في المساء.. يعني دوستويفسكي يا خيّ؟ دعك بالطبع من أن زوجتي ستجد الفكرة سخيفة.. أوشك أن أسمعها تقول لصديقتها على الهاتف
“البيه واخد شقة لنفسه عشان يكتب!.. قال يكتب قال”

هكذا أقرر أن أكتب في البيت، وهنا تأتي المشكلة التالية: لقد اعتدت الكتابة على الكمبيوتر، بحيث صرت فعلًا أجد عُسرًا في الإمساك بالقلم، وهناك في البيت جهاز كمبيوتر واحد.. والسبب؟ أعتقد دومًا أنه من الخطر ترك مراهق وحده مع جهاز الكمبيوتر خاصة في عصر الإنترنت. لا أثق في برامج الرقابة على الإنترنت، لهذا أحب أن يستخدم أطفالي الجهاز وأنا بجوارهم والغرفة مفتوحة، ولنفس السبب لا أستعمل في البيت سوى جهاز كمبيوتر واحد فلا تحسبنّ أن البخل هو السبب.

المشكلة هنا أن الإنترنت مغري جدًا ومليئ بالألعاب الشائقة.. والمشكلة الأسوأ أنني أستعمل ذات الجهاز للكتابة.. كل ما يختص بعملي أضعه عليه من أول قصة كتبتها حتى هذا المقال. من هنا تنشأ كارثة في البيت.
إن ابنتي تدخل الحجرة.. تقف بجواري في ملل.. أسألها عما هنالك فتقول
“أنتظر أن تنتهي!.. أريد أن ألعب”
أقول لها إنني سأمضي وقتًا طويلًا جدًا.. لا أعرف متى أنتهي.
كيف كنا -معشر الكهول- نعيش من دون كمبيوتر؟ التعبير على وجه ابنتي يوحي بأنني أب قاسٍ شرير.
بعد ربع ساعة تنصرف آسفة، ليظهر ابني الذي يريد أن يكلم زملاءه على برنامج (ماسنجر).. ثم يسألني في ضجر
“ألا تنوي أن تخرج أو تنام؟”
“نعم.. لاحظ أنني أقوم بالتأليف.. وهذا يستغرق وقتًا لأنه عملية خلق إبداعية ولا يوجد زر نضغط عليه كي…”
لا يبدو راغبًا في سماع شيء عن آليات الإبداع.. يريد الجهاز فقط، ثم هو مقتنع أن الأمر ليس بهذه الأهمية والخطورة.. وأنا بالتأكيد لست تولستوي، وإلا لعرف هذا أو لرآني أصافح ملك السويد وأنا أتسلم جائزة نوبل.. لو كنت ناجحًا لهذا الحد فلماذا لم أبتع كمبيوتر آخر؟ يظل يراقبني لمدة طويلة ثم يسألني
“ألاحظ أنك لا تكتب أي شيء”
أصيح في جنون.. أنا أفكر!.. أفكر!.. لست موظفًا في مكتب نسخ.. وكيف أفكر بينما هناك من يراقبني منتظرًا أن أفكر؟.. لو كنت (شكسبير) نفسه فلن أكتب حرفًا بهذه الطريقة.

أنهض للحمام -وهو حق فسيولوجي كما تعلم- وأعود بعد دقيقة لأسمع الصخب؛ ولأجد سيركًا قد نُصب في مكتبي فلا ينقصني إلا أن أبتاع تذكرة على الباب.. بوم بوم كراش فززز!.. ابنتي تقهقه وابني يصرخ منتشيًا.. أسألهما وسط الضوضاء
“مللبسيسسسسس؟”
“ماذا؟”
“هل قمتما بتسجيل ما كنت قد كتبته؟”
“لا..”
وبالطبع لا توجد طريقة للخروج من هذه اللعبة بالذات سوى بإطفاء الجهاز ونسف ما كنت أكتبه.

هكذا أصرخ فيهما وأطردهما كالذباب من الغرفة. طبعًا هناك حل ممتاز هو وضع مزلاج على الباب من الداخل، لكن زوجتي سوف تتضايق من هذا الحل باعتباري أسجن نفسي وأتركها وحيدة مع هذين الغولين الصغيرين.. لابد أنني أريد الشات مع البنات “المايصة”.. هي لا تحب الكمبيوتر ولا تستعمله وتشك فيه، وتعتبره كتلة من الانحراف والفساد الذي تم تجميده.

كما ترى ليس أمامي سوى حل المزلاج، أو حل شراء كمبيوتر خاص بالطفلين مع ما في ذلك من خطر، أو أن أجد مهنة أخرى غير الكتابة، أو أن أكتب في المقابر، أو أن أنتحر.. كلها حلول غير مُرضية فهل عندك حل سادس؟

مقال” أن تكتب في البيت – بص وطل” مقال معبر عن حال أهل الفكر فى زمن مادى بحت. نحن أرباب القلم ورثة الأنبياء، ننثر العلم والثقافة والمحبة فكيف لنا أن نكره زوجاتنا وأولادنا!

Follow by Email
Instagram
Telegram
WhatsApp